السلطة الحاكمة بقيادة التيار الأصولي تتجاهل الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها مدن إيرانية عدة، والتي بات أصحابها يرون أنّ المشكلة تكمن في وجود النظام وسياساته الخاطئة المتبعة منذ أكثر من أربعة عقود. ولم تعد أشكال الغضب في الشارع مرتبطة بما يسمى «شرطة الأخلاق»، أو تطالب بحل «دوريات الإرشاد» وإلغاء «قانون الحجاب الإجباري» فقضية الحجاب التي ارتبطت بمقتل الشابة مهسا أميني على يد الشرطة الإيرانية، أصبحت ثانوية في ما يبدو، وسرعان ما تحولت التظاهرات إلى شكل من أشكال الاحتجاج السياسي، وأبانت عن تدفق للوحدة عبر الانقسامات العرقية والإقليمية والطبقية القائمة بطبعها في البلاد.
تعاظم دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. عزّزه التعديل الذي طال مضمون المادة 57 من الدستور الإيراني، بأن أضاف صفة «المطلق» على صفة «ولي الأمر» التعبير الشرعي لولي الفقيه، فالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، تمارس صلاحياتها بإشراف «ولي الأمر المطلق وإمام الأمة»، وفقاً للمواد اللاحقة في هذا الدستور، وتعمل هذه السلطات في ظاهر النص مستقلة عن بعضها بعضا. من الواضح أنّ الحكم المطلق حُسم دستوريا في طهران منذ استفتاء 1989 وانتقال خامنئي من موقع رئيس الجمهورية إلى موقع المرشد الأعلى وقائد الثورة والولي الفقيه. وسمحت التعديلات للمرشد بأن يكون صاحب الصلاحية المطلقة في إدارة المؤسسة العسكرية بكل قطاعاتها.
والدولة يهيمن عليها هيمنة مطلقة المرشد الأعلى، وهو من الناحية العملية غير مسؤول أمام أي سلطة، ويتمتع بالكثير من الصلاحيات التنفيذية، هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة، بما فيها أجهزة الاستخبارات والأمن، ويمكنه إعلان الحرب والسلام، وهو يحدد السياسة العامة للدولة، ويختار رئيس السلطة القضائية وقادة الجيش. كما يمكنه إجراء تعديلات على الدستور والإشراف عليها، ويقوم بتعيين رؤساء المؤسسات الدينية والاقتصادية، وحتى مديري الشبكات الإعلامية. ورغم تعاقب الرؤساء الإيرانيين منذ عام 1979، فإنّ إيران أثبتت «أنها فاعِـل سياسي رشيد» بتعبير عمر حمزاوي الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي. في إشارة إلى التزامها سُـلوكا شديد الدقّـة في التعامل مع مصلحة إيران القومية، وإن كانت الولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية، تنظر إلى إيران باعتبارها مصدر التّـهديد الأكبر لمصالحها في الشرق الأوسط، ولن تتغيّـر هذه النظرة حتى لو دخلت واشنطن في حوار مع طهران، وهناك توافـق بين الجمهوريين والديمقراطيين على هذا الأمر، لكن ذلك لا يعني بالضرورة اللجوء إلى الخيار العسكري، وإنّما انتهاج سياسة الاحتواء هو الحل الأنسب بالنسبة لواشنطن. فالانجرار وراء رغبات إسرائيل، والتورط في حرب أخرى في الشرق الأوسط ليس في مصلحة أمريكا بأي شكل من الأشكال، خاصة في الظروف الحالية التي تتهدّدها فيها خسارة ريادتها للعالم، والتحكم في قواعد النظام الدولي مع بروز المنافسة الاستراتيجية الشرسة والمتصاعدة من جانبي موسكو وبكين، حتى أنّ انتهاج المقاربة الصراعية بالوكالة مع طهران من خلال إقناع دول الخليج في كل مرة بتعاظم الخطر الإيراني، ودفعهم للتصعيد معها، استراتيجية تقلّصت أرصدتها، والأزمة الأوكرانية وتداعيات مشاكل الطاقة التي انجرت عنها، كشفت أن دول مجلس التعاون لم تعد تنصاع لكلام البيت الأبيض، وإملاءات الإدارة الأمريكية، وبالتالي، حقيقة أن هذه الدول اعتادت تعريف الخطر على أمنها القومي بالارتباط بما تراه الولايات المتحدة خطرا، قد تلاشت هي الأخرى.
استخدام النفوذ الخارجي لإبعاد التهديد وشبح الخوف عن الداخل، استراتيجية إيرانية مبعثها الرئيس التخوف من سقوط النظام العقائدي القائم منذ أربعة عقود
استخدام النفوذ الخارجي لإبعاد التهديد وشبح الخوف عن الداخل، استراتيجية إيرانية مبعثها الرئيس التخوف من سقوط النظام العقائدي القائم منذ أربعة عقود. وهذا النفوذ تجسده أذرع إقليمية تابعة لإيران، تمتثل لتوجيهات نظام الفقيه، من ذلك حزب الله اللبناني، الذي وإن كنا لا نشك في دوره المقاوم في مواجهة إسرائيل واسترجاع الأراضي اللبنانية، فإنه عمّق الصراع الطائفي المتغلغل بطبعه في لبنان، مثله مثل باقي الطوائف التي أساءت للشعب اللبناني، وأوصلت البلد للحظة حرجة اقتصاديا وماليا، جراء الفساد وسوء الإدارة السياسية وصراع المذاهب والاحتراب الطائفي. حركة النجباء وكتائب حزب الله العراقي، وما سمي بتحالف الإطار التنسيقي، هي من أبرز الجماعات التي تعكس التحكم الإيراني بمفاصل الحكم والسياسة في العراق. والتمدد الإقليمي انتهى إلى الانغماس المباشر في الأزمة السورية عبر مجموعات مسلحة تابعة للحرس الثوري ولفيلق القدس تحديدا، وبسبب جماعة الحوثي الحليفة لطهران، انفتحت جبهة تراها إيران استراتيجية في اليمن للضغط على خصمها الإقليمي الأبرز في المنطقة، السعودية. لكن هذه الجبهة جرّت اليمن إلى حرب كارثية يدفع ثمنها شعب مظلوم، مزقته الصراعات الإقليمية، وتم استغلاله لتهديد أمن الممرات المائية الاستراتيجية. وهو إلى الآن يعاني جراء عسر الوصول إلى تفاهمات ثنائية بين الخصمين طهران والرياض، وغياب تفاهمات دولية من شأنها الضغط لإيقاف نزيف حرب مجنونة غير مبررة، وقعت تحت تأثير ضغوط خارجية، أمريكية تحديدا. ولم يكن في حسابات مشعلي الحروب كما اعتادوا على الدوام، حجم المآسي الإنسانية التي تنجر عن حروب بالوكالة.
يحدث ذلك في وقت تحدّثت الخارجية الإيرانية عن إن طهران تدعم إعادة فتح متبادل للسفارات مع السعودية، وتثمن دور العراق في تعزيز الحوار بين البلدين. في إشارة إلى جولات من المحادثات كانت عقدت بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين بالعراق، الذي يشترك في الحدود مع البلدين، ويستضيف هذه المباحثات منذ العام الماضي.. وكان الوسيط العراقي قد أبلغ طهران استعداد الرياض هي الأخرى لإطلاق محادثات علنية على المستوى السياسي. وتشهد منطقة الخليج إعادة ترسيم خريطتها الدبلوماسية مع إيران باستعادة الكويت والإمارات علاقاتهما الدبلوماسية مع طهران، في أجواء وُصفت بالإيجابية تجري على خط طهران الرياض، وتعكس انتقال أدوات التنافس بين دول المنطقة من المفهوم الجيوسياسي الذي لم ينجح في تهدئة التوترات والخلافات العالقة، إلى مفهوم جيو اقتصادي يمر عبر القنوات الدبلوماسية، وإن كان ثقيل الخطى. فقد حتّمته في ما يبدو المتغيرات العالمية التي تلقي ظلالها على الأوضاع الإقليمية وتؤثر فيها بشكل جلي. وبالنتيجة، هي تحولات مهمة من شأنها تهدئة الأوضاع في المنطقة بعد نحو سبع سنوات من خفض تمثيل البلدين الدبلوماسي. وربما تنهي بشكل من الأشكال أزمة اليمن، ولا تقف عند حدود الهدنة الأممية المؤقتة.
المجتمع الإيراني اليوم، بات كما يراه الباحث السياسي مهدي فقيه، في مرحلة التحول من الشكل التقليدي في الحياة إلى الشكل الحديث، وهو في حاجة إلى التغيير والتطور، وأي مقاومة من قبل النظام السياسي ستنتهي إلى مواجهة بين السلطة والمجتمع، على نحو تحدي «المشروعية» وتحدي «الفاعلية»، اللذين يستهدفان جوهر السلطة الحالية، ويشهدان قوة متنامية ومتزايدة باستمرار. هل سينصاع النظام إلى تقبل مثل هذا التحول؟ أم أنّه سيقمع بقواه الأمنية الغضب الشعبي المشروع في تطلعاته على الأقلّ؟ يبدو أنّ الوضع مرجّح لكل الاحتمالات، وإن كان غير قابل للجزم في الوقت الحالي.
كاتب تونسي