لم تتأخر طهران كثيراً لترد على جولة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الإقليمية لترسل وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى العراق التي كانت أهم محطات جولة بومبيو، في زيارة استثنائية حملت رسائل عديدة أهمها ما أراد ظريف إيصاله إلى الأمريكيين ومن النجف وأمام منزل المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني: نحن باقون هنا وأنتم راحلون.
وبدا واضحاً من طبيعة اللقاءات التي أجراها الدبلوماسي الظريف صاحب الابتسامة المميزة، وشملت كل خارطة “المكونات” العراقيّة، وهذا يحدث لأول مرة وعلى العلن حيث حرص الوزير الإيراني على إطلاق تصريحات لافتة بعد كل لقاء من تلك اللقاءات، من أن طهران ستكثف معركتها حول النفوذ مع منافسيها الإقليميين، خصوصاً السعودية، في العراق ومنه ستواجه أيضاً خطة الولايات المتحدة الرامية إلى عزلها وتشديد الضغوط عليها في المؤتمر المزمع قريباً في العاصمة البولندية وارسو.
جنازة بومبيو
تدرك طهران جيداً أن بومبيو الذي قطع جولته في المنطقة ولَم يذهب إلى الكويت أن عليها تفعيل دبلوماسيتها من العراق الذي تريد واشنطن – كما لمح ظريف – من بعض الفصائل العراقية تحويله إلى منصة عداء وإيذاء تعتمد عليه خطة مارتين إنديك السفير الأمريكي الأسبق في تل أبيب عبر احتواء زعامات شيعية عراقية، ومن هنا جاء لقاء ظريف مع تحالف النصر وخطابه المباشر إلى رئيسه وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم قائلاً له بعد إشادة كبيرة بأسرته: “الاعتماد على الشعب له عواقب أفضل من الاعتماد على الأجانب”.
وبينما نقل المترجم المرافق كلمة (بيكانكان) وترجمها إلى (الآخرين) قائلاً على لسان ظريف: “الاعتماد على الشعب له عواقب أفضل من الاعتماد على الآخرين”، فإن عمار الحكيم الذي نشأ وترعرع في ايران التي كانت وراء إنشاء المجلس الأعلى الذي ورث رئاسته عن أبيه وعمه، فهم مغزى الرسالة وعرف ماذا كان يريد ظريف إيصاله وهو يحاول إخماد فتنة صراع بين تياره وعصائب أهل الحق، يعتقد الايرانيون أن خطة مارتن إنديك تقوم عليها لجر الشيعة إلى حرب داخلية يضعف نفوذ ايران، ويذلل الصعاب أمام جهود قطع نفوذها في العراق والمنطقة.
بومبيو لم يزر الكويت وعاد إلى واشنطن بحجة المشاركة في جنازة، ولم ينجح حتى الآن في تحشيد المنطقة ضد إيران من واقع فشله في جمع الأقطاب المتنافرة في الإقليم على قلب رجل واحد. ربما عدم ذهابه إلى الكويت التي ترجح سياسة الحوار والدبلوماسية الناعمة مع إيران يفسر ذلك خاصة وأن الكويت كانت قطعت في هذا الطريق أشواطاً وهي ترفض سياسة التصعيد والمواجهة التي جاء بومبيو للترويج لها. ويبدو أن بومبيو فشل أيضاً في تحقيق أهداف إقامة مؤتمر وارشو المقبل وهذا ما أشار له وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (الأربعاء) قائلاً “إن الدعوة (للمؤتمر) تنص على أن الوثيقة النهائية ستعدها الولايات المتحدة وبولندا نفسها بدون إمكانية مشاركة دول أخرى في هذه العملية، مضيفاً “لدينا شكوك كبيرة في أن مثل هذا الحدث يمكن أن يساعد في حل المشاكل بشكل بناء في منطقة الشرق الأوسط”.
ولكنَّ هذا لم يمنع الإيرانيين من التفكير جدياً في مواجهة مخططات واشنطن ضدهم، ولهذا قرروا الذهاب إلى العراق، وبالتعويل على استحقاقات التاريخ والجغرافيا والروابط الشعبية التي أشار لها ظريف بقوله ومن النجف التي ذهب لها أيضاً وزير الخارجية الفرنسي، عندما قال الوزير الايراني وكأنه يشيع جنازة بومبيو من العراق “إن علاقات بلاده مع العراق قائمة قبل تأسيس الدولة الأمريكية، مشيراً إلى أنه لا يحق لوزير الخارجية الأمريكي التدخل إطلاقا في شؤون العلاقات بين البلدين”.
خلوة
قبل زيارة ظريف كان وزير النفط الإيراني بيجن زنغنة زار العراق بعد يوم واحد من زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. واقتصرت زيارة زنغنة على الرسميين ومنهم الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي شجعت طهران ترشيحه لغاية في نفس يعقوب لكنها لا تعول عليه كثيراً في معركتها لمواجهة الولايات المتحدة فوق الأرض العراقية.
وفي هذا الواقع كانت لافتة الخلوة الطويلة بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والمرجع السيستاني في منزله في النجف، وقد التقاه مرتين وبحضور زوجة ظريف التي رافقته أيضاً في لقاءاته التي تمت في القنصلية الإيرانية في كربلاء مع معتمديْ المرجع الأعلى اللذين يمثلانه في صلاة الجمعة كل أسبوع، وهي رسالة ذات مغزى بخصوص الأهمية التي توليها طهران لدور المرجعية في حفظ العلاقة بين العراق وإيران وتجاوز تداعيات مرحلة الحرب الطويلة بينهما ووصفها ظريف بالتاريخية “ولقد ارتوت هذه العلاقات بدماء الشهداء المراقة في الحرب ضد داعش”.
فتوى سنية
أجرى ظريف خلال الزيارة، وهي أطول زيارة له إلى دولة في الخارج، لقاءات منفصلة مع رؤساء وممثلي الفئات والمنظمات والمؤسسات الدینیة والسیاسیة والثقافیة والقومیة والاجتماعیة في العراق، بمن فیهم رئیس وأعضاء دیوان الوقف السني في العراق، وممثلو مختلف الأقليات القومیة والدینیة شملت المسيحيين والتركمان والصابئة والأیزدیين والشبك والكرد الفيليين.
وفي رد مباشر على زيارة بومبيو، التي كان من أهدافها تشجيع العراق على الالتزام بالعقوبات الأمريكية على إيران، اعتبر رئيس ديوان الوقف السني عبداللطيف الهميم أن هذه العقوبات تضر العراقيين قبل الإيرانيين، وأكد في فتوى نادرة أن “الدفاع عن الجمهورية الإسلامية أمام الحظر الجائر الأمريكي واجب شرعي”.
وعزز حضور ظريف مع وفد اقتصادي كبير، ولقاءاته مع رجال الأعمال وتجار القطاع الخاص في بغداد والنجف وكربلاء والسليمانية وأربيل الشعور لدى طهران بأنها قادرة على إجهاض أهداف واشنطن من فرض العقوبات عليها، ومحاولات تحريك الشارع الإيراني على نظام الجمهورية الإسلامية لإسقاطه من الداخل.
ويمكن القول أيضاً إن لقاءات ظريف مع زعماء العشائر، الذين كانت خطة مارتن إنديك أكدت الاعتماد عليهم في العمل نحو قطع نفوذ إيران، جاءت من واقع أن زيارة بومبيو العراق كانت مع الحكومة بينما تحرك ظريف في كل مفاصل القرار داخل العراق في ظل وجود حكومة ضعيفة تشكلت بتوافق وتفاهم يشهد الكثير من التفجيرات السياسية التي تهدد بسقوطها.
زيارة وزير الخارجية الإيراني تم رسم خارطتها داخل العراق مع المرشد الأعلى علي خامنئي الذي التقاه ظريف مطولاً قبل أن يغادر إلى بغداد حيث يستعد خامنئي لاتخاذ قرارات (هامة) تتعلق بالاهتمام أكثر من أي وقت مضى وبشكل جدي بالمناطق “الساخنة” وتحديداً مناطق أهل السنّة في سيستان بلوشستان والعرب في خوزستان الذين يشكون من عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بهم، ويريد بومبيو في مؤتمر وارشو المقبل أن يجري التركيز عليهم أكثر في خطة نقل الحرب إلى داخل ايران، والتي كان محمد بن سلمان وعد بها قبل أن يصبح ولياً للعهد في السعوديّة، ويتحرك على كسب ود زعامات شيعية عراقية يكون لهم الدور المفصلي في المواجهة مع ايران، وهو ما أشار له ظريف في حديثه مع تحالف النصر الذي يضم مقتدى الصدر وحيدر العبادي وإياد علاوي، عندما حذر من مغبة الاعتماد على الأجانب، وهو يمهد لزيارة الرئيس الايراني حسن روحاني المقبلة في آذار/ مارس قائلاً: “علاقاتنا مع العراق ليست مصطنعة ولسنا بحاجة لزيارة العراق سرا ً(في اشارة إلى زيارة ترامب للعراق)”، مؤكداً “إننا هنا نلتقي الناس ونحضر بينهم وإن شعبي البلدين تربطهما علاقات وطيدة”.
الزيارة الكبيرة لظريف وتوسع مساحة اللقاءات الى المكونات العراقية شمالا وجنوبا سنة وشيعة واقليات وزعامات دينية وعشائرية ,فضلا عن الابعاد الاقتصادية للزيارة كشفت ان ايران قادرة على التحرك في المجتمعية العراقية والتاثير بها,ليس فقط اكثر من اميركا بل اكثر من كل عوامل التاثير الاقليمية والدولية. شكرا استاذ نجاح على هذه القراءة الشاملة والدقيقة.
شكرا لكم على المقال الجميل..من وجهة نظر, هو اقرب للاخباري منه للتحليلي…واني اعتقد ان لا جذوة بعد تشتعل في الرماد! ولياتي نيرون مجددا لحرق روما!