ذهبتْ إيران إلى فيينا بعد توقف دام خمسة أشهر تعزيزاً لموقع حليفيها الصين وروسيا، وفق مصدر لصيق بالمحور الإيراني، وكأنه يقول: «إنه لولا ضغط بكين وموسكو لما كان الرئيس الإيراني المتشدّد إبراهيم رئيسي أوعز لفريقه بالتوجّه إلى فيينا». لم تستأنف طهران المفاوضات من حيث انتهت إليها الجولة السادسة، في حزيران/يونيو الماضي، بل وضعتْ على الطاولة اقتراحين جديدين حول رفع العقوبات عنها، وحول أنشطتها النووية التي تمضي بها بوتيرة أسرع، وكأنها تُعيد البحث إلى بدايات التفاوض على العودة لاتفاق 2015 ما اعتبره الأوروبيون خطوة إلى الوراء، وتراجعاً عن التسويات التي تمّ التوصل إليها منذ بدء المفاوضات بعد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض.
تلعب طهران على حافة الهاوية، وهي اللعبة الأحب إليها، لكن ثمة مخاوفَ فعلية من تدحرج الأمور بشكل ليس في الحسبان. تتصرَّف على قاعدة العارف بما يدور في خلد إدارة بايدن وفريقه، وهي التي خبرته سابقاً يوم كان هذا الفريق يُفاوضها في زمن إدارة باراك أوباما، تبني حساباتها على قاعدة الواثق بالخطوة الأمريكية التالية. لم تكن الحال هكذا في زمن الرئيس السلف، الذي من الصعب تَوقُّع خطواته والمدى الذي قد يذهب إليه. لم يضع الحرس الثوري الإيراني في حساباته مطلقاً بأن دونالد ترامب قد يذهب إلى قتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني. فالأخير كان يَعتبرُ أنه حين يَحطُّ في مطار بغداد، يكون في حماية الأمريكيين الأصدقاء لا الأعداء، ولذلك يعتبرون مقتله عملية غدر. ما كان الإيراني قادراً على التنبؤ بتصرفات الرئيس السلف كما هو قادر على قراءة الرئيس الخلف. وهذه من نقاط ضعف الإدارة الحالية، الضعيفة في أصل تكوينها، والقلقة اليوم من انخفاض شعبية رئيسها، ومن خسارة الغالبية في الكونغرس في الانتخابات النصفية 2022.
تتعامل إيران مع ملف التفاوض، وترفع سقف شروطها للعودة إلى الاتفاق النووي على خلفية وهن بايدن وأنها الأقوى. ثمة شروط ثلاثة تُطالب بها:
تريدُ رفع العقوبات عنها، وتستقوي بما حققته من انتصار في محكمة لاهاي أخيراً، حيث ربحت دعوى استرداد أموال إيرانية محجوزة في المنامة، وتُحضِّر لرفع دعاوى على سيول وعلى دول أوروبية تحتجز أموالاً إيرانية تماشياً مع العقوبات الأمريكية التي أعادتها إدارة ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018. لكن تحقيق هذا الشرط بكليته ليس بالأمر اليسير، فإذا كان ممكناً إلغاء العقوبات المفروضة بأمر رئاسي، فهي مسألة صعبة في ما يتعلق بالعقوبات المقرَّة من السلطة التشريعية.
وتريدُ طهران تعهداً أمريكياً بعدم تكرار سيناريو الانسحاب مجدداً مع إدارة مقبلة، رغم معرفتها أن مثل هذا الأمر لا يمكن لأي رئيس أن يُلزمَ رئيساً مقبلاً به، وأن قوّة الاتفاق تتحقق إذا صدَّق عليه الكونغرس. سبق للرئيس السابق أن عرضَ على الإيرانيين التفاوض قبل الانتخابات الأمريكية للتوصل إلى اتفاق يُعرض على الكونغرس للإقرار كمعاهدة تاريخية بين الولايات المتحدة وإيران، قائلاً إن شروطه ستصبح أصعب وأقسى إذا ما ربح الانتخابات، غير أن طهران جازفتْ في خيار انتظار الاستحقاق الرئاسي الأمريكي علّها تطيح بترامب، فأصابت في مجازفتها.
وتريد ثالثاً اعتذاراً عن انسحاب ترامب من الاتفاق. ولكن الأهم بالنسبة لطهران أنها تريد حصر التفاوض بالعودة إلى اتفاق 2015 من دون تلازمه مع ملفيّ الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي. تخلقُ وقائع جديدة في الأنشطة النووية لتستخدمها في مقايضة الصواريخ والنفوذ. استفادت من تمرير الوقت، فرفعت من نسبة تخصيب اليورانيوم ما جعلها قريبة من عتبة إنتاج القنبلة النووية. بات في يدها ما تُقايض عليه في هذين الملفين غير القابلين للتنازل، وفق اللصيقين بالمحور، كونهما عصب بقاء النظام، ويتعلّقان بأمنها القومي وبعقيدة تصدير الثورة التي هي المرتكز الأساسي في مشروع ولاية الفقيه. تُدرك أن مسألة رفع العقوبات مسألة حيوية لها، لكنها لا تعتمدُ سياسة الهرولة، ما دامت سياسة قضم الوقت لصالحها في ملف التخصيب.
خرج وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ليُعلن أن «ما لا تستطيع إيران فعله هو الإبقاء على الوضع الراهن الذي يُتيح لها تطوير برنامجها النووي وفي الوقت نفسه التسويف على طاولة المفاوضات». لعبة الوقت باتت ضاغطة. إسرائيل ترفعُ الصوت عالياً أمام التهديد الوجودي عليها. صحيح أنها تصرخ، لكن صراخها ليس صوتاً يذهب صداه في الوادي؛ إنها قادرة على الفعل العسكري وعلى جرِّ حليفتها إلى حرب لا تُريدها.
التهديد الإسرائيلي حاضر على طاولة مفاوضات فيينا، يضغط على الجميع. تتصرَّف إيران وفي حساباتها أن واشنطن ستستسلمُ أولاً، وأنها ليست في عجلة من أمرها للعودة إلى الاتفاق. هذه الحسابات تحمل الكثير من المجازفة، رغم التقييم السائد بأن موقعها التفاوضي أقوى مما كان عليه قبل أشهر.
سيعود المفاوضون بعد أيام إلى قصر كوبورغ في فيينا حيث أُبرم الاتفاق التاريخي عام 2015. لا وهم بإمكان حصول إنجازات، بل إن المطلوب بعضاً من الاختراق الذي يُطيل أمد التفاوض إلى أن تتبلور اتجاهات المرحلة المقبلة بين الاحتمالات الثلاثة: إما إدارة صراع أو اتفاق أو حرب.