من الإنصاف أن نعترف بالحقائق كما هي، وأن نتفهم الدواعي، فكراهية إيران عربيا، وتمني زوال نظامها الحاكم اليوم، ليست مقتصرة على نظم عربية رسمية، خليجية بالذات، معروفة بارتباطها بالسياسة الأمريكية، وإدمان التبعية المزمنة للبيت الأبيض، وإخلاص الطاعة للأمريكيين في المنشط والمكره، ومعاداة الذي تعاديه واشنطن، ومصادقة من تصادقه، وهو ما يفسر ميل هذه الأنظمة إلى صداقة إسرائيل والتحالف معها، مقابل عداوة لا تفتر لإيران، وإلى أن تقضي أمريكا قضاءها، وتحقق لهم المستحيل الذي هو ضرب إيران، تماما كما ضربت من قبل نظام صدام حسين.
ودعك مؤقتا من هذه النظم الوراثية، التي لا أمل في علاجها، ولا في التخفف من فداحة جرمها، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، وتزحف إليها موجة الثورات العربية الشعبية المعاصرة، وإلى أن تقوم ساعة الناس، قد لا يكون موقف هذه النظم مما يهم، أو يستدعي شروحا، فقرارها لا يصنع في عواصمها، بل في واشنطن وتل أبيب، والداء نفسه موجود في نظم عربية أخرى من الخليج للمحيط، بعضها موصوف بالقمع الديكتاتوري، أو بالادعاء الديمقراطي، وكلها تابعة سياسيا واقتصاديا، وإن بدرجات متفاوتة، تفسر ميلها الأقل عموما في مسايرة السياسة الأمريكية، وفي العداوة لإيران بالذات.
وفي النظم العربية الموالية لإيران، وهي في حقيقتها أشباه نظم، كما هو الحال مثلا في العراق وسوريا، تختلف الصورة، وتجد قطاعات شعبية واسعة، تكره إيران، وبدواع مفهومة إلى حد كبير، فصورة إيران عندهم، هي صورة الغازي المحتل، الذابح لقطاعات السنة العرب بالذات، الهادم لمدنهم وقراهم، الساعي لتغيير خرائط الجغرافيا والديموغرافيا، المغذي لشعارات طائفية مقيتة، المدعي لنصرة الشيعة والعلويين، وكل ما هو غير سني، واستقطاب مجمل الطوائف العربية غير السنية، وبهدف تغيير هوية البلد، إما بدعوى الانتقام من ميراث صدام حسين، الذي حارب إيران الخميني، وهزمها عسكريا، قبل أن تتوقف حرب الثمانية أعوام، وتبدأ مأساة العراق بغزو الكويت، ونهاية بالغزو الأمريكي للعراق نفسه، وتفكيك دولته، وتزايد مظاهر السطوة الإيرانية على أراضيه، ودعمها لحروب تصفية نفوذ السنة التاريخي في العراق، بدعوى رد مظلومية الشيعة، وهو ما صنع بيئة شعبية كارهة لإيران في العراق، تكره طهران كما تكره تل أبيب، وتكره المحتل الإيراني كما تكره المحتل الأمريكي، وهو الشعور نفسه الذي زحف إلى سوريا، بعد مصادرة نظام بشار الأسد للثورة الشعبية، التي كانت سلمية تماما في مرحلتها الأولى قصيرة العمر، ثم ضاعت فكرة الثورة، مع اندلاع الحروب الطائفية الكافرة، وتحول سوريا إلى ميدان مفتوح لما يشبه الحرب العالمية، وتقدم إيران إلى نصرة العلويين وجماعة بشار، ومعاداة إيران الحربية للسنة، وهم أغلبية السوريين، بما جعلها مع أدواتها الميليشياوية، مثالا لوحش طائفي، يستدعي الشعور بالكراهية عند القواعد الشعبية المقهورة، ويهيئ مناخا ملائما لعمل جماعات السلفيين التكفيريين، من «القاعدة» و»داعش» وغيرهما، ويحطم كيان سوريا ذاته، بشرا وحجرا، ويحولها إلى مزارع احتلال وتقاسم نفوذ وغنائم، للأمريكيين والروس والأتراك والإيرانيين، وإن بدت الغلبة الظاهرة اليوم للروس، الذين تتحالف معهم قوات إيران وأدواتها إلى حين.
تزيد مشاعر الولع بتحدي إيران لأمريكا وإسرائيل، فإيران في البدء والمنتهى من حقائق المنطقة، حتى إن جارت على بعض شعوبها
ولا أحد عاقل يلوم الشعور الشعبي الكاره لإيران، في العراق وسوريا بالذات، وحتى في اليمن الحزين، حيث تتسلط قوة «الحوثي» الموالية والمدعومة من إيران، وهي جماعة عنصرية متخلفة، لها باع لا ينكر في المراس الحربي، لكنها معادية لأي فكرة لها طابع تقدمي في التاريخ ، ومعادية لمبدأ الجمهورية اليمنية الحديثة، ومعادية لأغلب الجمهور اليمني المنكوب، الذي لا يملك أحد، أن ينكر عليه شعور الكراهية لإيران المتكفلة بالحوثيين، تماما كما جرى لقطاعات واسعة من أهل العراق وسوريا، فحيث يحضر النفوذ الإيراني المباشر، تبرز مشاعر الكراهية لإيران، وغالبا على قاعدة صدام الشيعة مع السنة، وهي لعبة إيران المفضلة، التي تشاركها في الولع بها، نظم خليجية، وقطاعات غالبة مما يسمى تيار الإسلام السياسي السني.
وهنا، نلفت النظر إلى نقطة جوهرية، تغيب غالبا في النقاش، هي دور نظم خليجية غنية في صناعة النفوذ والمجد الإيرانيين، وهو الدور الذي ينطوي على مفارقة محسوسة، فقد أنفقت هذه النظم مئات مليارات الدولارات لخدمة إيران، وغالبا عبر تكتيك استثارة المشاعر الطائفية، ونشر فتنة السنة والشيعة، واللعبة لها جذور استعمارية قديمة، حملت عنوان «فرق تسد» في مانيفستو الاستعمار البريطانى القديم، ومن بعده الاستعمار الأمريكي الجديد، والاحتلال الإسرائيلي المتقادم، بدأت بتأليب المسلمين على المسيحيين والعكس، ثم ازدهرت مع صعود موجة ما يسمى جماعات الإسلام السياسي، وحلول نظام الخميني محل نظام الشاه في إيران، فوجد أعداء ثورة إيران الشيعية ضالتهم في مكان آخر، هو تأليب السنة على الشيعة وبالعكس، ولعبت المدرسة الوهابية السعودية أخطر الأدوار في تأجيج الفتنة الجديدة، عبر تغذية حملات تكفير الشيعة بالجملة، واستدعاء ثارات التاريخ العائد إلى الفتنة الإسلامية الأولى، وحروب يزيد الذي قتل الإمام الحسين، وإغداق مليارات الدولارات على جماعات التعصب الديني السني، والدعم المطلق لجماعات التكفير الإرهابي بالذات، وعلى ظن أنها تصنع جيوشا لمواجهة إيران الشيعية، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، وتنقلب اللعبة لصالح إيران بالذات، بتفكيك النسيج الاجتماعي، في أقطار الخليج وأقطار المشرق العربي، خصوصا بعد الغزو الأمريكي المدعوم خليجيا، وتحطيم دولة العراق، ما أفسح الساحة الخالية لمد النفوذ الإيراني، وتحقيق الحلم الإيراني بالتوسع الامبراطوري على حساب العرب.
وبفضل فتنة الشيعة والسنة بالذات، التي فككت النسيج الاجتماعي لمجتمعات عربية مجاورة أو قريبة لإيران، أو حتى بعيدة نسبيا كما اليمن، وضمنت لإيران فرصة ضم ملايين الشيعة والمتشيعين العرب تحت جناحها، وتحويلهم إلى جيوش جاهزة مستعدة لخدمة المرجع الإيراني، فما يفكك العرب طائفيا، يخدم التماسك الإيراني قوميا، ولسبب ظاهر، هو أن إيران دولة متعددة القوميات، ولا يشكل الفرس فيها سوى نحو ثلث إجمالي السكان، فيما تحضر قوميات أخرى، كالأكراد والتركمان والعرب والبلوش والأوزبك وغيرهم، ولا يكاد يجمع بينهم سوى اعتناق المذهب الشيعي، وبنسبة تناهز التسعين في المئة من إجمالي السكان، وهو ما يجعل من «التشيع» قومية بديلة لإيران، كانت حاضرة منذ مرحلة «التشيع الصفوي» في مواجهة الخلافة العثمانية، وطبيعي أن يزداد حضورها مع دولة الإمام الخميني، فالتشيع هو الذي يضمن الهيمنة الثقافية للفرس في إيران، ويعطي القومية الفارسية فرصة السيطرة، ويكفي أن تعلم مثلا، أن مرشد إيران الحالي علي خامنئي من قومية الأوزبك، وأن علي شمخاني أمين المجلس القومي الإيراني من العرب، وقد كان في السابق وزيرا لدفاع إيران، وقد أصبحا فارسيين أكثر من الفرس أنفسهم، بسبب هيمنة اللغة الفارسية، وبسبب هيمنة المذهب الشيعي، وهو ما يجلي دواعي التماسك الإيراني، رغم تعدد القوميات، وهو ما أضافت إليه للمفارقة، مئات مليارات الدولارات المدفوعة من فوائض بترول الخليج، التي أنفقت لصد ثورة إيران، وكانت النتيجة على العكس بالضبط، فقد أضافت لإيران مددا هائلا من عشرات ملايين الشيعة العرب، وصنعت «إيرانات» مؤثرة في قلب مجتمعات عربية كثيرة، حاربت بسيف إيران، وأهلكت الغالبيات السنية في غير بلد عربي.
وكما لا يحق لأحد لوم شعور الكراهية لإيران، عند قطاعات شعبية عربية، فقد لا يحق لأحد بالمقابل، أن يلوم إيران على اتساع نفوذها، فإيران دولة لها مشروعها، ولها قرارها المستقل، الذي يصنع في طهران، ويملي عليها أولوياتها، التي برزت بالذات في مجال الصناعات الحربية والصاروخية والنووية، وكسبت نقاط تفوق، مكنتها من مد نفوذها في الربع العربي الخالي، وحيث لا يوجد مشروع عربي بعد انهيار المشروع القومي العربي، وانحسار دور مصر بالذات، ولم تكن مجرد مصادفة تواريخ، أن عام 1979 كان نقطة التحول، فقد خرجت مصر من جبهة المواجهة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وعقدت معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وهو الوقت نفسه، الذي قامت فيه ثورة إيران، وقطعت العلاقات مع إسرائيل، وبدأت في الدخول على خط مواجهة العدو الإسرائيلي، كان التحول دراميا، ومهد لقيادة المنطقة من أطرافها لا من قلبها المصري، وبدت إيران في صورة الداعم الوحيد لحركات المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، من «حزب الله» في لبنان، إلى حركة «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وغيرها في فلسطين، ما أعطى لإيران وجها مضيئا، يخالف وجهها الطائفي المظلم، وأكسبها امتيازا حاسما على كل نظم الحكم العربية، التي انتهت في غالبها إلى مهانة التطبيع والتحالف عمليا أو موضوعيا مع إسرائيل ذاتها، وبما كسب لإيران مساحات إعجاب وتعاطف عند قطاعات عربية شعبية، أوسع بالتأكيد من القطاعات الكارهة لإيران، خصوصا في الأقطار البعيدة عن يد النفوذ الإيراني المباشر، وحيث تزيد مشاعر الولع بتحدي إيران لأمريكا وإسرائيل، فإيران في البدء والمنتهى من حقائق المنطقة، حتى إن جارت على بعض شعوبها، بينما لأمريكا وإسرائيل صورة الأعداء بلا شبهة، الذين يتمنى العرب هزيمتهم وردعهم، ولو على يد إيران، ما دامت يد العرب مقطوعة.
كاتب مصري