يشيع كثيرا الوصف المستهلك لتشبيه السياسة الإيرانية بحائك السجاد، الذي يعكف على السجادة وقتا طويلا ثم يبيعها في لحظة، بطبيعة الحال، مع تخريجات وتعديلات كثيرة على هذه الأمثولة السياسية، التي أصبحت من الشيوع والقدم لدرجة أنه يتعذر الوصول إلى الشخص الذي صكها في المرة الأولى. وفي هذه الأمثولة ثغرات كثيرة، فليس جميع الإيرانيين شعبا واحدا على أي حال، فهم شعب من الاتساع والتنوع بما يجعل محاولة التعرف عليهم بهذه الطريقة الاختزالية مسألة معيبة وخطيرة، والأمثولة تحمل تعميما واسعا ومضللا، مثل إن الإنكليز لا يتمتعون بخفة الظل، أو أن الإيطاليين يؤول بهم الحال دائما إلى عصابات المافيا.
في الحقيقة، نحن لا نعرف إيران، ولا نعرف جيراننا الإيرانيين.. وضمير المتحدث في هذا السياق يعود على العرب بشكل عام. ولا تتوقف النخب العربية التي تفضل الحصول على معلوماتها من المراكز البحثية، التي تتصف دراساتها بوجود الغرض بصورة أساسية، بما يتنافى بصورة رئيسية مع فكرة البحث، حيث يتداخل التحيز، لأن السؤال المركزي يكون قائما على كيفية التعامل مع إيران، في العداء أو التعاون، وفي كلتا الحالتين، تقدم هذه الدراسات الغرض وتبحث عما يعززه ولا تتعامل معه في حالته الخام.
كثيرا ما يتحدث مثقفون ومختصون عرب عن إيران، ثم يعودون إلى الكتاب المهم الذي قدمه فهمي هويدي قبل نحو أربعين عاما، «إيران من الداخل»، ويتناسون عنوانه المضلل، فالعنوان الأفضل للكتاب هو «إيران من فوق» لأنه كان يتقصى السلطة وتركيباتها وكواليسها، أكثر مما يقدم الإيرانيين في حياتهم اليومية التي تشكل في المدى الطويل تصورا عن إيران خارج واقع الجمهورية الإسلامية، التي نعايش لحظتها في هذه المرحلة، ولكن ذلك يبدو اختزالا يلتهم إيران داخل نظام ولاية الفقيه، ويجردها من تاريخها، والأخطر، مستقبلها، في تقديراتنا ودراساتنا. فمع الصفويين وحتى قيام الجمهورية الإسلامية، حكمت إيران خمس أسر ملكية عاشت بمتوسط يزيد عن قرن واحد بقليل لكل منها.
مهما تكن سطوة أي نظام وقدرته على التمركز داخل التاريخ، فالشعب هو الذي سيفرض كلمته في النهاية
الحال على المستوى الشعبي يبدو مستغلقا على الفهم، فالزيارات التي يقوم بها الإيرانيون إلى بعض الدول العربية، والزيارات العربية المقابلة، هي أيديولوجية في الغالب، محطاتها محدودة داخل العالم العربي، وتدور حول المراقد الشيعية. أي أن الذين يأتون لزيارتنا هم من المعبئين أيديولوجيا، والذين لا يمكن أن يمثلوا إيران بالكامل، في المقابل، يذهب العرب من الطائفة الشيعية لزيارة إيران لأسباب أيديولوجية أيضا، ومعهم من يتوجهون إلى عمليات تجميل الأنف في إيران على يد أطباء مهرة وبتكلفة معقولة، وعادة ما تكون زياراتهم ذات طابع علاجي يجعل فكرة السياحة والتجوال بين الإيرانيين متعذرة بعض الشيء.
الحال مع الجارة تركيا مختلف، ففي الوقت الذي حاولت فيه أنقرة أن تحدث غزوا ناعما من خلال الدراما، فهي ألغت كذلك التأشيرات المسبقة لمعظم الدول العربية، أو جعلتها عملية سهلة ومتيسرة، وتحولت إسطنبول والمدن الساحلية إلى الوجهة الأولى للمسافرين العرب، وبذلك، فالشعب التركي لم يعد ذلك الكيان الغامض بالنسبة للعرب، والمواقف الإيجابية والسلبية تجاهه تتأتى من تجارب حدثت بصورة مباشرة مع أصحابها، أو أقاربهم أو أوساطهم الاجتماعية، وربما لا يعرفون الخلفيات الكاملة التي أدت إلى تشكل السلوك، أو التوجه داخل الشعب التركي، وهذه الحالة ليست قائمة مع الإيرانيين، في حال التسليم بوجود ما يمكن وصفه بالإيرانيين خارج اللحظة الاستعمارية، والسياقات الدولية الكبرى التي شكلت إيران الحديثة. فإذا كانت بعض الدول العربية قد عانت من تشوهات في ترسيم الحدود، التي حتمتها المصالح الدولية فأخذت من الأكراد مشروع دولتهم، فإن الوضع في إيران أكثر تركيبا وتعقيدا. إيران بلد التناقضات الكبرى، لا يمكن لأحد أن يزعم قدرته على فهمها، فمن بين الأسر التي حكمت إيران منذ القرن السادس عشر، كان البهلويون وحدهم يعتبرون من العرقية الفارسية، أما الأسر الأخرى، فكانت تركمانية الأصول أتت من النطاق التركي ذي الملامح البدوية الممثلة لثقافة السهوب الآسيوية البسيطة، واندمجت داخل الثقافة الفارسية العميقة والمعقدة. والإيرانيون ـ الشعب ـ لا يمكن أن تختزل توجهاتهم وطموحاتهم داخل التعبيرات التي تخضع لهندسة مصالح نظام ولاية الفقيه. وجد النظام الإيراني نفسه في زاوية حرجة بعد مقتل الشابة مهسا أميني، فالمظاهر الاحتجاجية حملت بعدا اجتماعيا منفصلا عن المتاعب الاقتصادية، والتمثلات السياسية التي كان النظام يتعامل معها بكثير من الخبرة وبقدرة واسعة على الاستيعاب، بتبادل الأدوار بين الإصلاحيين والمتشددين. وخارج معاندة بعض التيارات التي تجعل السماء والقبور مصدرا لتحديد الخيارات الإيرانية، كان واضحا أن إيران تعاني من مشكلات جديدة تتعلق بالهوة الواسعة بين إيران النظام، وإيران الشعب.
مهما تكن سطوة أي نظام وقدرته على التمركز داخل التاريخ، فالشعب هو الذي سيفرض كلمته في النهاية. والإيرانيون الذين لا يتحدثون بقدر ما يتحدث عنهم الجميع، داخل إيران وخارجها، عايشوا ظروفا مماثلة بدا فيها التاريخ وكأنه توقف من حولهم. وأي نظام سابق أو لاحق في إيران سيحمل الشخصية العامة للشعب الإيراني بكل أفكاره المرحّلة عبر التاريخ، والتي روضتها الأزمات وأعادت تشكيل بعضها. وببساطة، لا أحد يريد أن يستمع للإيرانيين، ولا يريد أن يراهم إلا داخل مواقفه المسبقة من نظام الحكم القائم.
لم تعد قصة إيران منحصرة في الإمام الغائب الذي يتحدث نيابة عنه الولي الفقيه، بعد أن أسكت المرجعيات الأخرى، التي وجدت في هذه الفكرة توظيفا مرعبا للدين في السياسة، بل تحولت أيضا إلى الشعب الغائب، الذي لا يجد من يتحدث عنه معترفا بتاريخه وثقافته، ليتحول إلى مجرد أداة في خطة كونية كبرى تلقي ظلالها على إيران وما حولها.
كاتب أردني