إيكاروس هو صاحب أشهر محاولة طيران، وهو أيضاً صاحب أشهر سقوط أو سقطة بشرية، وردت قصة إيكاروس في الأساطير الإغريقية، وكما هي عادة تلك الأساطير، تزخر حكاية الفتى الذي حلّق عالياً قرب الشمس، بالأخيلة والمعاني والأفكار. وتضرب بشكل عجيب في أعماق النفس البشرية، وتلامس معضلات الوجود الإنساني في كل زمان ومكان، وتلهم الفنون المختلفة، لتبدع على أثر دلالاتها المتعددة ورموزها الموحية، ومن هذه الفنون فن الرقص المعاصر. وعرض إيكاروس Icarus الذي قدمته الفرقة السلوفينية MN Dance Company للمرة الأولى سنة 2021 على مسارح سلوفينيا، وعبرت بالأجساد وحركاتها عن استلهامات مصمم العرض من أسطورة إيكاروس، وعن أفكاره المعاصرة التي ربطها بالأسطورة بشكل أو بآخر. وعلى العكس من أغلب عروض الرقص المعاصر، منح المصمم عمله جانباً درامياً إلى حد ما، وأضاف إليه الكلمات المنطوقة باللغة الإنكليزية، على لسان الراقصين والراقصات من أبطال العرض، إذ يعرفون عن أنفسهم، ويروون حكاياتهم القصيرة المختصرة، كما أن هناك من يقوم بدور الراوي، ويقود المتفرج لمتابعة العرض والدخول إلى أجوائه.
أراد المصمم لعمله أن يكون إنسانياً جامعاً، لذا نجد الراقصين على درجة كبيرة من التنوع، أتوا من بلدان متفرقة ويحملون جنسيات مختلفة، فهناك من أتى من إيطاليا وبولندا واليابان، وكوريا الجنوبية وهولندا ورومانيا، بالإضافة إلى الراقصين السلافيين بالطبع. لا تلعب الموسيقى دوراً بارزاً في هذا العمل، فالمصمم لم يعتمد على مختارات موسيقية مهمة كلاسيكية أو حديثة، وما تم إعداده وتنفيذه موسيقياً، كان أشبه بالموسيقى التصويرية والمؤثرات، التي تصاحب الرقص والحكاية، بل إن هناك أجزاء من العمل، يفتقد فيها المشاهد سماع الموسيقى، ويكون عليه أن يصغي إلى حديث الراقصين، أو إلى بعض الأصوات الغريبة، أو إلى الصمت. لا يقدم المصمم معالجة راقصة للأسطورة الإغريقية، ولا يعيد روايتها رقصاً، وعلى الرغم من أن العمل يحمل عنوان إيكاروس، إلا أنه لا وجود لبطل يدعى بهذا الاسم داخل العمل، وهناك أبطال يؤدون أدوارهم في قصة أخرى تماماً. ويتمثل حضور إيكاروس كرمز وسؤال، وربما كاختيار ومصير أيضاً، ومثال يتطلع إليه كل فرد، ليستخلص ما شاء من العبر والحكم، والأمور التي يمكن التعلم منها والاقتداء بها، والأخطاء التي يجدر تجنب الوقوع فيها، خلال وجود هذا الفرد على الأرض، أو أثناء محاولات الطيران الرمزية التي يقوم بها.
في رحلة إيكاروس القصيرة من السجن إلى الحرية إلى الموت، يوجد الكثير من الدروس المستفادة، والخيارات المتعددة أمام كل فرد، فهناك من سيختار الطيران والتحليق عالياً قرب الشمس، مهما كلفه الأمر، حتى إن كان الثمن حياته، وسيرغب في أن يستمتع بالعلو والارتفاع، رغم تيقنه من حتمية السقوط. وهناك من سيفضل البقاء على الأرض، خوفاً من الطيران وعواقب الارتفاع، وكراهية للموت المحقق، وسيفضل أن يصبر وينتظر أن يحل القدر ما عقده، أو أن ينتظر موتاً هادئاً غير دراماتيكي يأتيه على الأرض أيضاً. وهناك من سيخوض مغامرة الطيران، لكنه سيحكم العقل، ولن يسمح للغرائز والأهواء، وشطحات الأنا والغرور بأن تقضي عليه، سيقنع بالقليل من الارتفاع الذي يمكنه من النجاح، لكنه سيبقى قريباً من الأرض، لكي يستطيع العودة إليها بسهولة وثبات، أو لكيلا يكون السقوط فاجعاً على أقل تقدير.
حكاية إيكاروس
أما إيكاروس فقد اختار متعة التحليق عالياً، وزهوة الشعور بالرفعة والتميز، واغتر بصيحات الإعجاب التي تصل إليه من البشر على الأرض، وصفات التأليه التي أسبغوها عليه، أو حينما ظنوا أنه إله، فأعجبه أن يكون إلهاً لبعض الوقت، أو صدق أنه قد صار إلهاً بالفعل، ليكتشف في النهاية أنه مجرد إنسان، تستطيع عوامل الطبيعة أن تقضي عليه بكل سهولة. لم يكن الطيران لدى إيكاروس حلماً في ذاته وهدفاً مطلقاً، إنما كان وسيلة للهروب من سجن موجود على سطح مكان شاهق، أسر فيه بصحبة والده ديدالوس، وديدالوس هو أشهر مهندسي أثينا القديمة ومثّاليها، وأعظم فنانيها وعباقرتها، وهو من قام بتصميم وتشييد التيه، أو المتاهة المعروفة باسم اللابيرنث، ليتمكن الملك مينوس من التخلص من المينوطور المتوحش، الذي لم يستطع أحد القضاء عليه. وبعد خلاف بين ديدالوس والملك مينوس، أمر الملك بأسر ديدالوس وابنه إيكاروس، في ذلك المكان المرتفع المطل على البحر، وأن يظلا هناك في ذلك المكان حتى الموت.
ونظراً لارتفاع المكان، لم تكن هناك وسيلة للهروب سوى التفكير في الطيران، لذا أخذ ديدالوس يجمع ما يطاله من ريش الطيور، وشمع استطاع أن يحصل عليه عن طريق الحيلة، وخداع أحد الحراس، وصنع في النهاية الأجنحة الضخمة الهائلة، ليبدأ رحلة الهروب مع ابنه. لكنه أوصى ابنه قبل بدء الرحلة، بألا يحلق عالياً قرب الشمس، حتى لا تذيب أشعتها الشمع الذي يثبت جناحيه، وألا ينخفض في طيرانه قرب البحر، لكيلا يتسبب رذاذ المياه في تجمد الشمع وتيبس الجناحين، وأن يظل دائماً في منطقة وسطى بين الشمس والبحر، وأن يطير على ارتفاع محسوب، لكن الفتى التواق إلى الحرية بعد الأسر، نسي في غمرة انطلاقه كل ما نصحه به أبوه، واتبع شعور المتعة بالارتفاع فوق الأرض والبشر، والاقتراب من الآلهة، وكان لا بد من أن تعاقبه الآلهة على فعلته، وسرعان ما ذاب الشمع بفعل أشعة الشمس، وبدأ سقوط إيكاروس المروع على مرأى من أبيه، وتلك هي حكاية إيكاروس.
حكاية العرض الراقص
أما العرض الراقص الذي يمتد لساعة وربع الساعة تقريباً، فله حكاية أخرى تبدأ بوجود الراقصين على خشبة المسرح، وهم يؤدون بعض الحركات الخفيفة، يتقدمهم راقص يتحدث أمام الميكروفون، كما لو كان قائد طائرة على وشك الإقلاع، ويرجو من الجميع ربط الأحزمة. يتبادل الراقصون الحديث عن الرقص وعن رحلة الطيران وعن أنفسهم، ثم يروي أحدهم حكاية عن عشرة أشخاص مختلفي الجنسيات على متن طائرة، ويعرف بكل شخص وجنسيته، ثم يقول إن الطائرة بدأت في الاضطراب والاهتزاز، ويكون على الراقصين أن يترجموا ما يقوله جسدياً، فيضطربون ويهتزون أيضاً. ثم يقول الراقص المتكلم إن قائد الطائرة، أخبرهم أنه لا بد من إلقاء شخص منهم لكي تنجو الطائرة بمن فيها، بعد ذلك يتحدث كل راقص عن نفسه قليلاً إلى أن يبدأ الرقص، بعد تقديم العشرة راقصين بصوت الراوي، والسؤال حول من منهم سوف يستطيع الطيران، ومن سوف يظهر قواه ويتغلب على العقبات ويحارب ويقاوم حتى النهاية.
يبدأ الراقصون والراقصات في أداء بعض الحركات المضطربة، مع هبوط أعمدة النور من أعلى المسرح، وعلى وقع صوت أشبه بصوت محركات الطائرة. تتزامن الحركة في البداية، ثم تتعاقب بعد ذلك بفروق قليلة، ويتراجع الجميع لتبدأ إحدى الراقصات رقصتها الفردية، على وقع موسيقى ومؤثرات متوترة، وتكون الحركات أشبه بأداء بعض التمارين الرياضية أو اليوغا، ويفقد الرقص انسيابيته الموجودة في الباليه على سبيل المثال، وقد يكون هذا مملاً لغير هواة الرقص المعاصر.
وبالاعتماد على أربع راقصات وستة راقصين، يصنع المصمم بعض التكوينات المتشكلة بواسطة الأجساد، ويستمر الرقص في ظلام شبه تام على المسرح، بمصاحبة إضاءة خفيفة صادرة عن أعمدة النور الهابطة من أعلى، وينتهي هذا الجزء من العرض بصعود أعمدة النور مرة أخرى إلى أعلى، لتؤدى بعد ذلك بعض الرقصات الفردية والجماعية، كرقصة الحبال التي تتطلب أداء جسدياً معقداً، ولياقة بدنية عالية. وفي الجزء التالي من العرض على خلفية نرى فيها السحاب المتحرك، وعلى وقع موسيقى وأصوات أهدأ قليلاً، يتجه الرقص إلى محاكاة حركة الطيران، بالاعتماد على الذراعين بطبيعة الحال، والتعبير عن الخوف من السقوط، ويكون الجزء التالي من العرض، على خلفية البحر هذه المرة وأمواجه المتحركة الهادرة. ومع ظهور الشمس على المسرح أو ذلك القرص المضيء، يقترب العرض من أسطورة إيكاروس وأهم دلالاتها رموزها الواضحة، تكون الشمس مركز تلك الرقصة، وتتشكل الأجساد حولها ومن خلفها ومن أمامها، ثم يحمل الراقصون شخصاً منهم، ويرمونه إلى الأعلى ثم يتلقفونه، كما لو أنه هو الذي سوف يتمكن من الطيران أخيراً، ثم ينتهي العرض وقد تم تثبيت أسطوانتين طويلتين في ذراعي ذلك الشخص كبديل لجناحي إيكاروس.
كاتبة مصرية
إيكاروس , خرافة !
لكن عباس بن فرناس الأندلسي . حقيقة !!
أتذكر باص بالسبعينات ( من أوروبا الشرقية ) إسمه إيكاروس !!!
ولا حول ولا قوة الا بالله
صحيح، لكن إيكاروس أقدم بكثير من ناحية الفكرة، وإن كانت خيالا. وعباس بن فرناس كان في مخيلتي أثناء الكتابة، فهو من عرفناه منذ الطفولة ولوقت طويل قبل أن نعرف إيكاروس. غريب أن تسمى وسيلة تنقل بهذا الاسم المرتبط بالسقوط. هذا ليس بالفأل الحسن. تحياتي
الميثولوجيا الاغريقية تزخر بالحكايات الأسطورية التي تتضمن الأفراح و الأحزان. كانت مناهج التعليم بالمغرب في الماضي تتضمن هذه الحكايات الخيالية في مادتي العربية والفرنسية على حد سواء و كم ألهبت هذه الأساطير خيالنا و نحن في مرحلتي الصبا و المراهقة… كنا نقرأ أحيانا قصص الكاتب المصري كامل كيلاني رحمه الله التي كان بعضها يوظف هذه الحكايات الخيالية. حاليا أعتقد أن مناهج التعليم تخلو في جميع البلدان من هذه الخرافات .طبعا من ميزات هذا المقال أنه يطرح من خلال Icare رغبة الانسان و طموحه في التحليق مثل الطيور و هذا ما نجده في التراث العربي في محاولات الطيران التي حاول عباس بن فرناس تجريبها. الفرق بين الروايتين هو أن عباس بن فرناس كان له وجود بالفعل. تحياتي وشكري للدكتورة العزيزة .
تحياتي أستاذ هيثم. رائع جدا ما ذكرته حضرتك عن دراسة هذه الأساطير، يدهشني فعلا ما أسمعه عن الاختيارات التي كانت مقررة عندكم في المغرب. الميثولوجيا الإغريقية كانت مادة مستقلة مقررة علينا في المعهد، ولها أستاذ متخصص. والآن بحكم قراءتي المنتظمة لمجلة الرسالة، أستعيد ترجمات دريني خشبة، وقد كانت كتبه من أهم المراجع لدينا أيام الدراسة، ولا يزال يجذبني الصراع مع القدر والآلهة، وتذهلني تشابهات خطيرة جدا مع التصورات الإسلامية حول الآخرة والحساب مثلا.
جميل جداً موضوع طيران Icarus والرقص و الإنارة على تشابه تاريخ الإنسانية و معتقداتهم أكانت مستوحاة من الخرافة أو الديانة او اين كان.
شكرا لك
اتساءل، هل ستأتي خفافيش الظلام بعد إسدال الستار على المقال المتميز. في مونولوغات.. و قمة الثقافة .. و هذا يشكر الآخر ..
.
لماذا الظلام .. لماذا الانتظار .. ?
بالمناسبة يا أخت مروة، الأسطورة الإغريقية لم تأت هكذا من اللاشيء، فلا بد أن هناك شيئا ما في الخيال أو حتى في الحلم يربطها بالواقع،