في فترة السبعينيات من القرن الفائت، برز الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود بوصفه أحد المهتمين بتاريخ البنى العائلية في أوروبا والاتحاد السوفييتي. كان تود قد وصل إلى فكرة تقول إن تحليل المجتمعات والحداثة والتحولات الدينية، لا يمكن تفسيرها فقط من خلال التحليل الماركسي، أو تحليل ماكس فيبر حول التدين البروتستانتي بوصفه أساس الإصلاح، ولذلك أخذ هذا الباحث يسافر في سجلات العائلات وتواريخ البنى العائلية في العالم الغربي. في تلك الفترة ربما لم يكترث كثيرون للتحليل الديموغرافي، مع ذلك وصل في عام 1976 بكتابه «السقوط النهائي: انهيار الشيوعية العالمية السوفييتية» إلى فكرة تقول إن انخفاض الولادات خلال خمسين سنة من عمر روسيا، خلق نمطا عائليا آخر أكثر مساواة، وهذا ما كان يعني برأيه ظهور مواطنين روس قادرين على إسقاط الشيوعية. ظن يومها كثيرون أنّ كلام الرجل شيء من الدعابة، أو على أقل تقدير يبقى تكهنا، لكن بعد ذلك بسنوات قليلة كان التكهن يتحول إلى نبوءة إن صح التعبير، فقد أثبتت الأيام أنّ الديناصور السوفييتي كان يتفتت من الداخل.
وخلال هذه الفترة، سيعمق تود من منهجه هذا عبر إصدار كتاب آخر في عام 1983 بعنوان «الكوكب الثالث: بنى أسرية ونظم أيديولوجية» حاول فيه إعداد نظرية أنثروبولوجية تفسر الاختلاف السياسي بين المجتمعات في مرحلة تحديثها من خلال البنى العائلية، لكن سيبقى الكتاب الأهم في مسيرته، ربما كتاب «اختلاف أوروبا» أو اكتشافها (1990) إذ سيتمكن تود فيه من تقديم رؤية جديدة حول صورة أوروبا وكيف تشكل الوعي الديني فيها خلال خمسمئة سنة، وما عرفته لاحقا من أيديولوجيات، من خلال مدخل البنى العائلية كعامل أساسي في فهم هذه التغيرات. وقد بقي هذا العالم في عالمنا العربي شبه مجهول، في حين كان يجري التعرف على تود في العالم العربي بشكل أفضل عام 2015 من خلال كتابه «ما بعد شارلي» وربما هذا ما شجع «مؤمنون بلا حدود للنشر» على تبني ترجمة كتابه الأساسي حول أوروبا، وهو كتاب ضخم قرابة (800 صفحة) وتولى ترجمته الأكاديمي التونسي أحمد فاضل الهلايلي، ولم يحظ الكتاب إلى يومنا هذا بالاهتمام الكافي من قبل القارئ العربي. وبالعودة لأطروحة تود الأساسية، فهو يرى أنّ تحليل البنى العائلية وتوزعها في المكان، يمكّننا من تتبع التنوع الأوروبي على مدى خمسمئة عام. فالقيم الأساسية للحرية، أو السلطة وللمساواة، أو التمايز، التي تنشّط الحداثة، هي قيم متجذرة في ذاك المجال العائلي الأصيل، ولذلك فإنّ إدراك ومعرفة الأنماط العائلية وتنوعها، يسعفنا في تفسير أغلب ردود الفعل في الجهات على حركات الإصلاح البروتسانتي وعلى الثورة الفرنسية، كما يمكننا من تفسير تضاعف أنواع من النزعات الاشتراكية والنزعات القومية في القرن العشرين.
يبدو المجال الأنثروبولوجي الأوروبي منذ العصر الوسيط مجالا مجزأ، فهناك أربعة أنماط عائلية تتمايز من ناحية مفهوم العلاقات والأسر والأطفال، ومن ناحية الروابط بين الأخوة وهذا التنوع العائلي يفسر قابليتها الدائمة للتجزؤ منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، لكن يمكن القول إنّ أهم نمطين هو نمط العائلة النواتية المساواتية، وفيها تكون العلاقات بين الآباء والأبناء من صنف تحرري، وتكون العلاقات بين الأبناء من صنف مساواتي، أما النمط الثاني فهو النمط الجذعي الذي تقوم فيه العلاقات بين الآباء والأبناء على بعد سلطوي، والعلاقة بين الإخوة تكون تمايزية كذلك. وبالعودة إلى القرن السادس عشر وحركة الإصلاح البروتستانتي، يتساءل تود لماذا تبنت عدد من الجهات البروتستانتية بحماسة، في حين أنّ آخرين ظلوا أوفياء مدة أطول للديانة التقليدية لأوروبا. واعتماداً على رؤيته السابقة، يرى تود أن خلف جغرافيا الحداثة الدينية، تتجلى الجغرافية التقليدية للأنماط العائلية، كما يرى أن موت الله الذي أعلن عنه بعد ذلك بقرنين هو أيضاً من إفراز المجال العائلي.
تقترح البروتستانتية في واقع الناس دمقرطة الوعي الديني وتحقيق ذلك، بينما هي في المستوى الميتافزيقي تؤكد عبودية البشر وتمايزهم، وتؤمن بالقضاء والقدر، فالإصلاح اللوثري هدف إلى إلغاء احتكار رجال الدين للحياة الدينية، والبروتستانتية تروم القطع مع ديانة مفصولة عن الناس، فلوثر يتطلع إلى مسيحيين متساوين لمواجهة القوانين التي سنتها روما الكاثوليكية، عبر الانكباب الكلي على الكتب المقدسة، وترجمة النصوص والدواوين الدينية إلى لغة عامية، وعبر تزويج الكهنة، وإلغاء تعاليم رجال الأديرة، ورفض سلطان البابا. لكن على صعيد المعتقدات فإن الإصلاح اللوثري ينطوي على عبودية البشر للإله وتمايزهم عنده، وهذا مكون مفهومي مناقض لواقعه على الأرض، بينما نرى في الكاثوليكية أنّ الغاية الدنيوية هي ترسيخ احتكار رجال الدين للحياة اليومية، ولذلك فالبعد الدنيوي في الكاثوليكية تمايزي وولائي، لكن على الصعيد العقائدي فهي تساوي الحظوظ والتكفير عند كل البشر، وبذلك لا تتطابق مع الفكرة البروتستانية حول القضاء والقدر، التي تفترض وجود مصير مقدر لكل إنسان قبل الولادة، والرب في هذه الحال ليس جباراً وهو ليس ذاك العنيد الذي لا يستجيب، وهكذا الكاثوليكية تظهر مكونا ميتافيزيقيا مساواتيا وتحرريا يقابل المكون الدنيوي التمايزي والولائي.
بعد شرح هذا التمايز بين الكاثوليكية والبروتستانتية، يبين تود أن الحلقة الأولى من تطور البروتستيانية قد تشكلت في ألمانيا، حيث تمثل البنى العائلية ذات النمط الجذعي (سلطة الأب) مجمل الأساس الأنثروبولوجي، وهو النمط الذي يبدو قريبا من الفكرة العقائدية البروتستانية حيال سلطة الله وتمايز الأفراد لديه، وكذلك الأمر في سويسرا، حيث تعد تلك البنى 88٪ أما الحلقة الثانية من الانتشار فقد وجهت إلى اسكندنافيا، حيث توجد في السويد نسبة 79٪ من بنى النمط الجذعي، في المقابل لم تتمكن هذه الرؤية الدينية من النفاذ إلى الحوض الباريسي، حيث تهيمن العائلة النواتية المساواتية، ما أتاح الفرصة للرؤية الكاثوليكية بالصمود، كونها رؤية تقوم على طابع مساواتي على المستوى العقائدي، ولذلك فإنّ الأقاليم الثلاثة الكبرى التي هيمن عليها هذا النمط الأنثروبولوجي المساواتي أصبحت الأبطال الثلاثة الأساسية المواجهة للبروتستانتية، تلك الأقاليم هي الحوض الباريسي لفرنسا وشمال إيطاليا وجنوبها، ثم إسبانيا.
الطريف في نهاية كتابه، أن تود عاد ليمارس مهاراته في فهم البنية العائلية ليس لتفسير الماضي فقط، بل الحاضر والمستقبل أيضا، فقد كتب في خاتمة مؤلفه حينها (1990) أنّ شكل أوروبا ووحدتها متوقف على البنى الأنثروبولوجية في داخلها، ولذلك بدا متشككا لفكرة وحدة أوروبا أو إمكانية استمرار هذه الوحدة.
وفي سياق قراءته لرؤية ماكس فيبر حول المدن ودورها في الإصلاح البروتستانتي، يبين تود أن أي دراسة شاملة أوروبية لخريطة اليقظة البروتستانية ولمعارضتها الكاثوليكية توضح، بما يكفي، أنه لم يكن هناك في أي فترة استعداد مخصوص من المدن للإصلاح، فالمدن كانت بروتستانية في الفضاء الجرماني، وكانت كاثوليكية متزمتة في الحوض الباريسي، ومن المؤكد أنّ المدن تساهم في سريان كل الأفكار.
وعلى امتداد قرابة 400 صفحة، ييبين علاقة العائلة بالثورة الصناعية، وأيضا يتابع مسارات العائلات وتطورها البنيوي في غالبية الدول الأوروبية، ومن بين القضايا التي يقف عليها ما يتعلق بـ«موت الدين» وميلاد الأيديولوجيا، فهو يرى أنّ الفردانية المساواتية والليبرالية الخالصة والديمقراطية الاجتماعية والفاشية والشيوعية والقومية الاشتراكية، لا تستطيع أن تلقى قبولا شعبيا كأيديولوجيا مهيمنة، إلا إذا سمحت لها البنية العائلية بذلك، فقد أفرز المجتمع المسيحي فراغا ميتافيزيقا، ولذلك كان يجب على الناس، أن يجتمعوا في إطار مجتمع مثالي، وقد ظهر تباعا في أوروبا صرحان متنافسان، كان يجب في نهاية الأمر أن يتجاورا ويتصادما، فالمجتمع الجديد إما أن يكون مجتمع الأمة، وإما أن يكون مجتمع الطبقة. فعلى صعيد فرنسا، طرحت فكرة الأمة بوصفها المجتمع الجديد، كما طرحت مقولة الإنسان الكوني الذي يولد حرا، وهذا ما يرده المؤلف إلى بنية العائلة المساواتية، التي بقيت مستمرة في أقسام واسعة من فرنسا، في حين وجدت البنية الجذعية الألمانية، وبعد شيء من التردد أنّ الفرد الألماني يولد خاضعا ولكنه متفوق على الآخرين، وهذا ما يناسب الخيار الثابت للعائلة الجذعية، متمثلا في سلطة الآباء والتمايز بين البنين، وفي هذا السياق صاغ نيتشه جوهرا جرمانيا غير قابل للتفاوض ومتفوق، وعاد هيغل لاحقا ليؤكد على الدولة في حد ذاتها بوصفها الحالة المنشودة، ويرى تود أن هذه المقدمات هي التي أفسحت المجال لاحقا لظهور النازية التي تنطوي على ذوبان الفرد في العرق والدولة.
الطريف في نهاية كتابه، أن تود عاد ليمارس مهاراته في فهم البنية العائلية ليس لتفسير الماضي فقط، بل الحاضر والمستقبل أيضا، فقد كتب في خاتمة مؤلفه حينها (1990) أنّ شكل أوروبا ووحدتها متوقف على البنى الأنثروبولوجية في داخلها، ولذلك بدا متشككا لفكرة وحدة أوروبا أو إمكانية استمرار هذه الوحدة.
لن يقف تود في أطروحته على مدار العالم الغربي، فقبل اندلاع الانتفاضات العربية (2007) كتب برفقة عالم الديموغرافيا يوسف كرباج مؤلفا بعنوان «لقاء الحضارات» حاولا من خلاله فهم مسار التحول الديموغرافي الذي يشهده العالم الإسلامي، من خلال البنية العائلية، وقد وجدا يومها أنّ انتشار تنظيم النسل، أدى إلى ارتفاع مستوى الوعي، ما قوض العلاقات التقليدية بين الرجال والنساء، وكذلك سلطة الرجل على زوجته، وقد عنى هذا التحول، في رأيهما، حدوث قطيعة سلطوية داخل العائلات، سواء أكانت مترافقة أم لا، وهذه القطيعة كما كتبا يومها «ستؤدي وتتسبب في ضياع شامل للمجتمع، وفي الكثير من الأحيان، تتسبب أيضا في انهيارات انتقالية قد تكون دامية للسلطة السياسية، فزمن انتشار التعليم وتعاطي موانع الحمل كثيرا ما يكون أيضا زمن الثورة» يومها أيضا ظن القراء أن تود وزميله يبالغان في هذا التفسير، وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان جيل آخر يقود المظاهرات في شوارع القاهرة ودمشق وصنعاء، ولتؤكد دقة وأهمية الأخذ بمنهج تود في دراسة الأطر العائلية والديموغرافيا كمدخل لفهم التحول الاجتماعي والسياسي، ومن هنا وجب الاهتمام بهذا العمل الشيق.
كاتب سوري
معظم الأوروبيين لا يؤمنون بأن هناك إله, بعكس الأمريكان!
معظم الأروبيين مع الفلسطينيين, ومعظم الأمريكان مع الصهاينة!! ولا حول ولا قوة الا بالله
سرور. لكن تعليق بسيط على ماجاء في نهاية المقال حول النبؤ بالربيع العربي. يوجد عدة كتاب ومؤلفين أو علماء إجتماع وصلوا إلى هذه النتيجة من زوايا مختلفة. أذكر على سبيل المثال أنني شاهدت حوار على القناة الثالثة الألمانية قبل عدة سنوات كان يشارك فيه عالم إجتماع نمساوي (للأسف نسيت أسمه) وتحدث أنه كان في سوريا قبل فترة من اندلاع الثورة وأنه لاحظ النمو السكاني المرتفع في سوريا وكانت يذكر يومها ماحدث في رواندا وأن النمو السكان في رواندا كان أيضًا مرتفعًا كما في سوريا وهنا يذكر أنه قال لزميله أن هذا يجعله يعتقد أن سوريا سيحصل فيها إنفجار وربما حرب أهلية كما حصل في رواندا!. أذكر حديثة جيدا لأني كنت أيضًا أشاطره هذا الرأي وكنت دومًا في زياراتي لسوريا قبل الثورة أرى أن النمو السكاني المرتفع هذا سيسبب مشاكل لايمكن حلها حيث أن الدولة لاتكترث للأمر والنظام لايفكر إلى باستغلال الناس والسرقة وابتسلط, وأة هذا سيؤدي إلى إنفجار الوضع في سوريا. وآخر مرة كانت ٢٠١٠ وقد أكدت للإستاذ الذي عملت معه في ستراسبورغ أن سوريا ستنفجر ولم يصدقني لكن هذا ماحدث طبعًا.