أتى عشرات الالاف الى ميدان تقسيم في المساء، واعلن عدد من الاتحادات المهنية اضرابا اليوم، وهذه الاتحادات تنوي حشد اعضائها في الميدان. ان الاحتجاج في ظاهر الامر يستمر كالعادة في اسطنبول وفي العاصمة أنقرة، لكن من الصحيح الى امس انه لوحظ انخفاض في التوتر وخفتت حوادث العنف. وقد تعلم الطرفان درسا من الاخطاء التي قاما بها في الايام الخمسة الاولى. وقال المحتجون ما عندهم، وهم لا يعرفون ماذا سيقولون بعد الان. اردوغان الذي كان يفترض أن يعود امس من زيارته لشمال افريقية، استمر أمس في محاولات سلب الاحتجاج شرعيته. وزعم ان الاذرع الاستخبارية التركية تفحص مشاركة ‘قوى اجنبية’ في الاحتجاج، لكنه رفض أن يقول ما هي القوى التي يقصدها. وكانت عنده فرصة ذهبية ليقول شيئا ما منددا بحكومة اسرائيل والموساد، لكنه اختار تجاوز ذلك. وقد اتهم المتظاهرين بالتطرف وقال: ‘يحسن باولئك الذين يطلبون منا ان نكون معتدلين ان يكونوا هم أنفسهم معتدلين. ان دخل الفرد في تركيا يبلغ اكثر من عشرة الاف دولار في السنة، فالناس يحسدون على ما هم عليه’. واستعمل الرئيس عبدالله غول، وهو من حزب اردوغان لغة مختلفة، فقد شبه غول الذي يشبه الرئيس بيرس عندنا في تأديته دورا معدلا ومصالحا في الازمات الداخلية، موجة الاحتجاج في تركيا بالتظاهرات التي حدثت في اوروبا وفي الولايات المتحدة في 2011، ورفض تشبيهه بالثورات في العالم العربي. ‘لم توجد عندهم انتخابات حرة ولا محاكم مستقلة’، قال. ‘وهي موجودة في تركيا’. كان ذلك الكلام يرمي قبل كل شيء الى تهدئة العالم، لانه اذا كان الحديث عن صيغة تركية لحركة احتلال وول ستريت او لندن او باريس فلا داعي للخوف، لان الاحتجاج سيصور ويختفي. وكان يرمي ايضا الى تهدئة الاتراك على جانبي المتراس: فمن يعارض الاحتجاج يستطيع أن ينتظر اختفاءه في صبر ويستطيع من يؤيده أن يشعر بانه جزء من الغرب لان عنده ما يفخر به. يخيل اليّ ان في كلامه شيئا من الصدق لان ميدان تقسيم ليس ميدان التحرير. وليست تركيا هي مصر، لان مصر دولة يصعب عليها اطعام سكانها، اما تركيا فهي قوة اقتصادية كبيرة لها احتمال لا يستهان به أن تصبح خلال عشر سنوات الاقتصاد العاشر في العالم من حيث الكبر. تمت من وراء الستار جهود لاعطاء المتظاهرين شيئا يسهل عليهم العودة الى الحياة المعتادة، ولا توجد في هذه الاثناء نيات انشاء لجنة كلجنة تريختنبرغ، لكن قد يتبنى بعض مطالب المحتجين. وقد تجري تغييرات على خطط البناء في المتنزه الملاصق للميدان، وستحاول الحكومة أن تبرهن على أنها منصتة لدعاوى المتظاهرين وانها ‘حكومة كل الاتراك، اولئك الذين صوتوا لنا والذين لم يصوتوا لنا’، كما قال امس نائب رئيس الوزراء الذي عاد واعتذر امس ايضا من سلوك رجال الشرطة العنيف. ان الكرامة لها دور مركزي في تركيا وليس في تركيا فقط. ان رئيس وزراء يتساهل في كرامته، من المؤكد انه سيرى ضعيفا وخائنا لاشد مؤيديه اخلاصا. ان مرحلة المصالحة اصعب على اردوغان من مرحلة الصراع. هذا احد الفروق الكبيرة بين الاحتجاج الاجتماعي في الغرب (وعندنا ايضا) والاحتجاج هنا: فالاحتجاج محصور في انسان واحد وفي رؤيته ومزاجه وصورة حكمه. والمتظاهرون يحصرون اهتمامهم فيه، رغم انهم يعلمون انه لا احد يستطيع الان ان يسلبه رئاسة الوزراء: فهو وحده في سدة الحكم يقبله 55 في المئة من السكان وهو يسيطر سيطرة لا كابح لها على حزبه وعلى الجهاز السياسي. فهو يشبه بوتين تركي. في اليوم الماضي جلت في الاحياء الداخلية من اسطنبول فلم أرَ رجل شرطة واحدا. وتمر من وقت لاخر سيارة شرطة مسرعة من دون أن تقف، ولم أرَ أيضا جنودا الا من خلال جدر قواعدهم العسكرية. ولم يوجد في الميدان تقسيم رجال شرطة ولم يوجد رجال شرطة ايضا في المفرق المجاور لملعب فينونو الذي يستعمله فريق كرة القدم بيشكيش. وقد كان هذا المفرق في ليالي الاحتجاج الاولى مركزا لعنف شديد، ومن جملة اسباب ذلك ان قصرا مجاورا يستعمله اردوغان حينما يكون موجودا في اسطنبول. وامس وصل بضع عشرات من المتظاهرين الى حديقة فوق المفرق فوقفوا ساعات عند الدرابزين مقنعين مسلحين بالحجارة وبسائل ممتص للغاز يترصدون فريسة. وتأخرت الفريسة عن الحضور، فقد فضل المشجعون المتحمسون لفريق كرة القدم أن يعالجوا جرحاهم ويستريحوا في بيوتهم. واختفى رجال الشرطة، ولا يدل اختفاء رجال الشرطة في هذه الحال على ضعف النظام بل على ذكائه. فبدل تهييج رجال الشرطة على المتظاهرين هيجوهم على اكوام القمامة التي اجتمعت في الشوارع الملاصقة للميدان. في ليل البارحة قريبا من منتصف الليل امتلأت سماء ميدان تقسيم بالالعاب النارية احتفاء بمهرجان ابتدأ في المدينة. وسواء أكان مهرجانا أم لا فان الالعاب النارية بدت مثل حفل نهاية.