البيع والشراء قديم جدّا هو أقدم من تاريخ العملة نفسها، أقدم من الدينار والدّرهم، لأنّ أوّل بيع وشراء لم يتمّ بالعملة حتى قبل أن تكــــون صعــبة. يكفي لكي تتمّم صفقة أن تتفق بليل مع صاحب شأن في أمر يخصّك، وتحوك معه وتنسج اتفاقا ضدّ بعضهم ممّن ينامون على أذنيهم، حتى تكون بائعا ويكون هو الشاري، والله وحده يعلم بالثمن.
للبيع والشراء حكايات؛ وحكايات اللسانيّين معه مختلفة. حكي العرفانيّون وعلى رأسهم رونالد لنغاكار وليونار تالمي، قالوا إنّنا نبني الأكوانَ التي نصفها باللّغة باختلاف مواقعنا وزوايا النظر إليها؛ فنحن لا نتكلّم ولا نبني الأكوان التي نصفها باللغة أو بغيرها، إلاّ إذا ركّزنا نظرنا على مشهد وجعلناه بؤرة اهتمامنا وسلّطنا الضّوء على أحداث بعينها وعلى فواعل ومفاعيل دون غيرها وأوّلنا من وجهة نظرنا الخاصّة أفعالها؛ إنّه لا يوجد في اللغة إلاّ التّموقع والتّبئير على دائرة بعينها. تشبه ملكة اللغة في هذا ملكة البصر: فكما نحن لا نرى إلاّ من موقع ولا ننظر إلاّ من مُطَّلَعٍ نتطلع منه لمشهد، فكذلك الكلام لا يحمل غير رؤية صوتية، أو وجهة نظر كلامية. لذلك يقول لنغاكير إنّ كثيرا من الألفاظ في اللغات الطبيعية لها تقريبا محمولات دلاليّة واحدة، لكنّها تختلف باختلاف زوايا النظر إليها، أو باختلاف طرق بنائها في الكلام.
ويرى تالمي أنّ مضامينَ العبارات اللّغوية متنوّعة بتنوع الأطر التي تنتمي إليها؛ ويفرض التّأطير حسب تالمي وجهة نظر مخصوصة إلى الأشياء التي نصفها باللغة، ويجد التأطير مجال اشتغاله بالمعلومات الموسوعية التي نخزنها في ثقافة معيّنة عن كيان ما، أو موضوع معيّن. في هذا الإطار نقول عن باع واشترى، إنّهما عمل واحد يسمّى أحدهما باعتبار التسليم والتفريط بيعا، ويسمّى الثاني باعتبار الاستلام والتحوّز شراء.
كم بِعْنَا وكم اشْترَوا وكم فرّطنا وكم تَحوّزوا؛ فلا يبيع إلاّ الفقير حين يقرّر أن ينتقل من دارة الغنى أو شبه الغنى والتفضّل إلى دارة الفقر والكفاف؛ ولا يشتري إلاّ الغنيّ حين يتمرّد على وضعه وينتقل من كوخ الفقر والفاقة إلى قصر الغنى.
كم بِعْنَا وكم اشْترَوا وكم فرّطنا وكم تَحوّزوا؛ فلا يبيع إلاّ الفقير حين يقرّر أن ينتقل من دارة الغنى أو شبه الغنى والتفضّل إلى دارة الفقر والكفاف؛ ولا يشتري إلاّ الغنيّ حين يتمرّد على وضعه وينتقل من كوخ الفقر والفاقة إلى قصر الغنى. المسافة الفاصلة بين قصر التفضل وكوخ الفاقة طويلة؛ في نقطة منها يلتقي البائع والشاري ليسلم أحدهما ملكا صار مجازا، ويستلم فيها الثاني الملكية نفسها وقد صارت حقيقية ثمّ يستسلم البائع. فكرة زاوية النظر اللسانية هذه بديعة لأنّها تجعلك تنظر إلى كلّ من البائع والشاري بالعين التي يستحقّ أن تنظر إليه بها. نولد أحيانا في حارة البائعين؛ قضاءً نولد هناك وقدرًا نعيش فيها، فيبيعون كلّ شيء ولا نملك أن نردّ لهم بيعا، ثمّ نخرج بأيدينا فوق رؤوسنا. هذا حزين لكنّ المأساة العظمى هي أن تصبح الحارة بحجم الوطنǃ
ما لنا وللبيع والشراء هنا، ونيّتنا التي أعلنّاها منذ البداية في العنوان أن نتحدّث عن ابن آوى. لسنا خارج البيع والشراء فحكاية أخينا ابن آوى فيها شيء من البيع والشراء: بيع التين والزيتون. باعة التين والزيتون هم باعة المتوسِّط يبيعون في الشّتاء الزّيتون بالقَفيز وفي الصَّيف يبيعون التّين بالزَّنْبيل. والتّين يحمله الرّجل إلى أهله فرحًا بالخير مسرورا مستبشرا، ولم يبلغنا أنّهم حملوه في مِكتَلْ مثلما حملوا فيه العنَب والتَّمْرَ، رغْم أنّ المكتل نوعٌ من الزّنبيل. يوضع التين في الأقناعِ وهو طبق الفاكهة، وفي مواسم الكثرة يبيعونه في سلال عريضة زوجيّه تسمّى الشَّارية بلغة إفريقية التي يكثر تينها فيخزّن بعد أن يجفّف شرائح شرائح، وينقع في زيت الزيتون ويؤكل في أيّام الأزمة في الشتاء. يحمل الراحل زاده من التين في الحقيبة، وإن كان مكثرا وضعه في الخُرْج ذي العِدْلَيْن، ولا نعرف أنّهم وضعوه في المِزْوَدِ. المهمّ أنّه كانَ أكلَ المسافر الذي يطول سفره في عصر البغل الحَرُون.
سيقال له بنات آوى بدلا من أبناء آوى، هذا قرارنا ولا مردّ لإمضائه ولقد وافقتنا جميع أحياء العرب..
في ذلك العام كان آوى وهو رجلٌ من أحياء العرب يحملُ تينا جافّا اشتراه من الشّمال للزاد وللأهل؛ واحتاج أن يشرب فضلّ الطريق إلى عين الماء، وقيل إنّها جفّت فجأة. وحين أدرك أنّه هالِكٌ لا محالة، طلب من الآلهة أنْ تنجيه من الموت، وأن تمسخه لو أرادت حيوانا، حتى إن كان في هيئة الكلب. وفجأة ظهر له في اللّيل وهو بين موت وحياة طيف يشبه البشر فناوله وعاء كان يسمّيه العرب المزادة، وهي في لغات أخرى كالقِرْبَة والسَّطِيحَة؛ شرب منها النُّغبة أو النُّغبتين وحين استردّ بهما الأنفاس صار الماء زيتا ينقع فيه التين. فكّر آوى أن يحتفظ بهذا الطّيف الذي يحوّل العطش إلى ماء والماء زيتا فأغراه بجارية إنسيّة كانت له فطمع الطيف ورحل معه إلى حيّه. صار آوى غنيّا بالماء الذي علّبه في الجرار وبالزيت الذي أرسله إلى الشرق والغرب. وبعد مدّة حملت زوجة آوى وحين ولدت وضعت شيئا يشبه جراء الكلاب: كائنا وسطا بين الذّئب والثعلب. تذكّر آوى أنّه تمنّى في وُشْكانِ هلاكه القديم أن يُمسخ في هيئة كلب أو ما أشبه.
ظلّ آوى بين أبيه وأمّه يتكبر على الكلاب ويخشى إنْ قدم الليل الذئاب؛ حتى تزوّج من جِرْوَة من كلاب العرب أغراها وأنجب منها الابن والبنات. كثر اللّغط في حيّ آوى عن ابنه، لكنّ النّحاة كانوا أكثر جرأة على أبيه قالوا له: يا آوى أمّا نحن فسنجاريك في تسميته بابن آوى، غير أنّنا سنحرمه من أن يُجمع جمع العقلاء وقد تكاثر منه العدد.. سيقال له بنات آوى بدلا من أبناء آوى، هذا قرارنا ولا مردّ لإمضائه ولقد وافقتنا جميع أحياء العرب.. قهقه آوى ضحكا من ضيق نظر النحاة ووافقهم وأمضى في ميثاق الجمع الذي كتبوه.
لم تمض سوى سنة أو بعض سنة حتى مات آوى وترك مالا كثيرا، ولم يبق له من وريث غير ابنه وبعض الجواري لأبيه، أمّا أمّه فقد هامت على وجهها حزنا من هذا المسيخ.. كان المال كثيرا جاء من الزيت والماء المعلّب وليس غير وريث ذي بنات. خاف أشراف أحياء العرب من أن يصير فيهم ابن آوى غنيّا فأسرعوا للحكماء يستفتونهم في حرمان ابن آوى ونسله من الميراث. قال كبير الحكماء وكان متضلّعا في البيع والشراء: سيرث لأنّه بالغٌ ومُحاربٌ. في يوم التوريث جلس النحاة مع الأشراف الشّهود والأشراف الحكام، وحين بدأت المراسم وابن آوى رابض باسط ذراعيه ينتظر لحظة الثروة، تكلّم كبير النّحاة وسأل كبير الحكماء الضّليع: هل سيرث مفردا أم سيرث جمعا؟ إن كان سيرث مفردا فعليكم أن تعتبروه ذكرا؛ وإن كان سيرث جمعا فعليكم أن تعتبروه أنثى، فابن آوى ذكر وأنثى ومفرد وجمع في آن، هذا رأينا فاجروا قسمتكم إن كنتم على إجرائها قادرين. اضطربت عقول الفقهاء واختلّت أقوالهم وانتظر ابن آوى مع بناته، فلمّا طال الأمر وجاع ضرب في الأرض فهو إلى اليوم يأكل الجيف ويلعن النّحاة. ولعلّه سيسمع بمن سيقول: «الأفضل لك أنْ تأكل خلف الأسد بدلا من تأكل جنبا إلى جنب مع ابن آوى».
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية