تنامى لديّ في الاعوام الاخيرة احساس بأن الاحتفاء الفلسطيني والعربي الى حدّ ما بشعراء ومفكرين واكاديميين، مثل محمود درويش وادوارد سعيد واحسان عباس وهشام شرابي وفدوى طوقان وجبرا ابراهيم جبرا وغسان كنفاني وآخرين هو من قبيل تضميد نرجسية قومية جريحة، بحيث يتخطى التباهي باسمائهم في معزل عن ابداعهم النقد في بعده الجمالي، لهذا ما ان توارى هؤلاء حتى خفتت الاضواء حولهم، وما تبقى هو تطقيس وترميز وأيقنة، فإدوارد سعيد نادرا ما نقرأ عنه باللغة العربية، وان كان مستمر الحضور باللغات الاخرى خصوصا الانكليزية، واكثر من ذلك منعت كتبه في فلسطين، بعد صدور كتابه في نقد اوسلو.
ومحمود درويش لم يمر على رحيله غير بضع سنوات حتى تعرّض لاعادة انتاج من خلال مرجعياته الشعرية وبالتحديد الميثولوجي منها، بحيث اصبح عبر اعادة الانتاج مجرد صائد مقاطع شعرية مُنتزعة من سياقاتها. وجبرا الذي مات في بغداد بعد ان اغرقها الظلام، اكمل القصف المهمة، ضمن متوالية قتل الموتى في ثقافة العرب المعصورين وليس المعاصرين، فتوارت مسوداته ورسومه وبعض مخطوطاته ووثائقه تحت اطلال بيته في شارع الاميرات ببغداد المحتلة. واحسان عباس ناءت جدران منزله بكتبه فتشردت وكأنها تعيد سيرة حياته في طبعة منقّحة تليق بما انتهى اليه اللجوء الفلسطيني الموعود بالعودة الى نزوح ومن ثم الى مصطلح جديد اجترحه المنفى القومي اسمه ‘العالقون’.
وهشام شرابي لم يكن افضل حظا في رحيله شبه السرّي، وان كان قد تنبأ بذلك على نحو غير مباشر في كتابه ‘الجمر والرماد’، عندما اسدل الستارة على نافذة الطائرة وهو يغادر بلاده قائلا: لن اعود اليك يا وطني.
اما غسان الروائي والقاص والمترجم والناقد والمسرحي والصحافي فقد اختُزل بمرور الوقت الى مجرد شهيد، ورغم الحفيف التراجيدي لهذه الصفة الباسلة الا انها استخدمت لحجب المبدع وراء الناطق السياسي باسم فصيل فلسطيني، وان كان هو الاخر قد امتلك من طاقة الحدس ما جعله يجازف بكتابة عائد الى حيفا ليقول بأن من عجزوا عن دق الخزان ومن اصابتهم العنّة الجنسية نسوا او تناسوا جيلا كاملا من صلبهم بقي في المناطق المحتلة سنة 1948 وفي حضن الدولة العبرية الاشبه بالقنفذ فأصابتهم العنّة الوطنية، اما فدوى طوقان فقد كفى الله والشعر معا من ودّعوها بالكنافة المرة شرّ النقد والمراجعة، وقد ينتهي الامر بهذه السلالة الى ان تهجع على يافطات نحاسية على نواصي الشوارع اذا اطلقت اسماؤهم عليها
* * * * * * * *
اعود ثانية الى ادوارد سعيد ولا ابدأ منه، فما كتب عنه كثير جدا وتتعذر الاحاطة به في مقام كهذا، لكن التصنيف الأولي لما كٌتب عن سعيد يمكن اجماله بخمسة محاور، الأول استشراقي بكامل الارث الكولونيالي قدّمه برنارد لويس، والثاني نقد يصل حدّ النقضّ كما قدّمه صادق العظم في كرّاس بعنوان ‘الاستشراق معكوسا’ ويقف معه على الارضية ذاتها لكن من مقتربات مغايرة الى حدّ ما، د. نديم البيطار في فصل مكرّس لنقد سعيد من كتابه عن الهوية القومية، والثالث من منطلق ماركسي هو ما كتبه اعجاز احمد الهندي عن كتاب ‘الاستشراق’، والمحور الرابع معرفي ابستمولوجي قرأ ادوارد سعيد كما هو بلا اسقاطات او تقويل ونموذجه سالم حميش في كتابه ‘ الاستشراق في افق انسداده ‘. والمحور الاخير هو لغط شفوي لمن لم يقرأوا ادوارد، بل قرأوا عرضا صحافيا لطروحاته.
المحور الاول ومثاله برنارد لويس الذي اوشك ان يقدم نعوتا هي بمثابة المعادل الذاتي للنعوت التي قال سعيد بأن الاستشراق يطلقها على شخصية العربي، فادوارد حسب لويس زائف وتعسفي وأرعن، اضافة الى تعميماته، والنعوت التي قال سعيد بأن الاستشراق الكولونيالي يطلقها على العربي هي كاذب وخؤون وقاصر وانفعالي . والمحور الثاني لا نعدم فيه قاسما مشتركا بين د. صادق العظم و د . نديم البيطار، فادوارد حسب هذا النقد ومن خلال اهم مقترباته قدّم رؤية ميتافيزيقية للاستشراق، لأنه وقع بين التعميم والتجريد واسقط نواياه على موضوعه، بحيث يبدو كما انه روديارد كبلنغ لكنه يكتب عبارة الشرق شرق والغرب غرب من اليمين الى اليسار وليس العكس.
والمحور الثالث، اي نقد ادوارد من منظور ماركسي فان مثاله ما كتبه اعجاز احمد، وحين التقيت اعجاز في ندوة حول د. فرانز فانون فوجئ عندما قلت له انني قرأت له كتابا له بالعربية عن ادوارد سعيد فلم يكن يعرف ذلك، وما قاله لي لم يكن مغايرا لما ورد في كتاباته عن ادوارد غير انه كان اقل راديكالية في نقده، والارجح ان هذا المفكر والاكاديمي الهندي الذي يعلن انحيازه للقضية الفلسطينية وللقضايا العادلة في هذا الكوكب المنكوب قد يعيد النظر في ادوارد سعيد، ليس بمعنى الاعتذار بل بالتراجع عن اتهام ادوارد بانه لم يقرأ ماركس، وما كتبه عن الهند ونمط الانتاج الاسيوي، وان كان الاعتراض الذي يقدمه اعجاز احمد على سعيد هو تعامله مع ماركس كمستشرق، والحقيقة ان ما كتبه ماركس عن الجزائر ومراسلاته مع انجلز لا يمكن ان يندرج الا في خانة الاستشراق لكن بمعناه الواسع .
والمحور الرابع، معرفي بقدر ما هو منهجي، وهو ما تضمنه كتاب د. سالم حميش عن ادوارد سعيد، حيث ناقش حميش اطروحة سعيد عائدا الى جذورها سواء في ذاكرة سعيد او في ارشيف الاستشراق ذاته، ومن مآخذ د. حميش على سعيد ان كتابه عن الاستشراق الذي لا ينكر فضله في النقد وتحريك السواكن اتّسم احيانا بوقفات هي اقرب الى الغفلة منها الى اليقظة المعرفية ويوجزها بأن ادوارد رأى بان تيارات الاستشراق كلها محكومة بافكار محورية كاللسنية والفرويدية والشبنجلرية والداروينية والعنصرية، لهذا يرى د. حميش ان ادوار سعيد يطلب من المستشرقين ان يحققوا ما يشبه المستحيل اي التخلي عن تصوراتهم الغربية وفصلها عن دورهم كعلماء، كما ان د. حميش يختلف مع ادوارد حول ما كتبه عن الاستشراق الفرنسي بالتحديد، فطريقة سعيد اتسمت كما يقول بحسن الظن المسبق والاعجاب غير المبرر، فالذي يعرف الاستشراق الفرنسي عن كثب لا يمكنه ان يصادق على حشر روجيه اونالديز، وايف لا كوست في زمرة العلماء الذين خلقوا اعمالا ممتازة، لأن الاول لم يدّع بانه من كبار المستشرقين والثاني ليس مستشرقا بالمعنى الدقيق والمعهود للكلمة، لكن د . حميش في الفصل الخاص بمناقشة اطروحات عربية حول الاستشراق اكتفى منها بما هو في مُتناول اليد، وقد لا يكون هذا قصورا منه بقدر ما هو قصور في ثقافتنا العربية التي تعاني العزلة في ذروة الادعاء بالتواصل، وللمثال فقط اذكر كتابي ‘الاستشراق’ و’الوعي السالب’ الذي طبع مرتين في عمان والقاهرة خلال العشر سنوات الماضية، اضافة الى فصل موسع عن الاستشراق الامريكي نشر في مجلة ‘وجهات نظر’ المصرية .
والمحور الاخير يراوح بين الاستعراض الصحافي الافقي واللغط الاشبه بالنميمة الثقافية، ففي بعض الاوساط الفلسطينية يختزل سعيد الى مضاد فكري وسياسي لاتفاقيات اوسلو، رغم انه صاغ مع محمود درويش بيان الاستقلال الذي اعلن في الجزائر والذي قال لي محمود عنه ذات يوم بأنه مجرد مقال، وهو قول له دلالاته الموجعة، خصوصا بعد ان رأى محمود ما انتهت اليه الدراما الفلسطينية، وهذه مناسبة لاستذكار ما سمعته ذات يوم من الراحل د. عبد الرحمن بدوي وهو عالم ندين له بالكثير، خصوصا في موسوعته عن الاستشراق، فقد مشيت بصحبته من معهد العالم العربي في باريس مسافة طويلة اقتسمها اثنان عبد الناصر وادوارد سعيد، وحين قلت لاستاذنا الجليل ان ما يقوله هجاء وليس نقدا، غضب كعادته وكان عليّ ان اتمتم مع نفسي العبارة نفسها وهي قتل الموتى. وهناك حادثة لا اقوى على تجاهلها في هذا السياق، هي باختصار ان مفكرا عربيا لامعا كان سيكتب مقدمة الطبعة الثانية لـ’الاستشراق’ و’الوعي السالب’ الصادرة قبل ستة اعوام عن مكتبة مدبولي في القاهرة وحين احسست ان المقدمة ستوظّف من الفها الى يائها ضد ادوارد سعيد اعتذرت على الفور لأنه فهم او اراد ان يفهم بأن ما قلته في كتابي عن التشابه بين رؤية عمر فاخوري للاستشراق في كتابه ‘ آراء غربية في مسائل شرقية ‘ والصادر في بيروت عام 1922 اي منذ اكثر من قرن وبين رؤية ادوارد له، بأن ادوارد قرأ الكتاب وأفاد منه لكنه لم يُشر اليه.
ادوارد سعيد مناسبة مستمرة، وكذلك انداده من السلالة الخالدة، وهذه مجرد طرقة اولى على البوابة العملاقة التي علق الصدأ بأقفالها.