استقالة نيكي هيلي: الدور المقبل أعظم

فتاة من أبويين هنديين هاجرا إلى الولايات المتحدة تعد نفسها أو هناك قوى تؤهلها لتلعب دورا أكبر من سفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. إذ لم يحدث في تاريخ المنظمة الدولية أو في تاريخ ممثلي الولايات المتحدة الدائمين، أن جاء من هو أكثر تحمسا للموقف الإسرائيلي المتطرف أكثر من نيكي هيلي، بحيث أصبحت تتقاسم الأدوار بالضبط مع المندوب الإسرائيلي داني دانون، وزير الاستيطان السابق في حكومة المستوطنين التي يرأسها نتنياهو. لقد جعلت موضوع الهجوم على فلسطين والفلسطينيين شغلها الأساسي، حتى لو خرجت عن النص أحيانا للالتفات إلى كوريا الشمالية وروسيا وإيران وسوريا، لكن ظل توجهها الأساسي تدمير القضية الفلسطينية وبعثرة أوراقها وخلطها بقضية إيران والإرهاب. وسأستعرض بعض الأسباب التي يمكن أن تكون أدت إلى استقالتها المفاجئة للبعض على الأقل.

أسباب الاستقالة

تعددت النظريات التي تحاول أن تفسر أسباب استقالة نيكي هيلي، وهي في ما يمكن أن يوصف “أوج شعبيتها” إذ بلغت نسبة الرضى عن أدائها 63% أي بزيادة عشرين نقطة عن رئيسها. وأهم هذه النظريات هم ما طرحه مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل، ومبعوث الرئيس السابق باراك أوباما لمفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية حيث قال: يصعب تخيل ذلك في الوقت الراهن، ولكن إذا خسر الحزب الجمهوري الانتخابات النصفية المقبلة يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 بأرقام عالية، وكل شيء ممكن، فقد يشعر الجمهوريون بأنهم بحاجة إلى مرشح أقوى من دونالد ترامب، أي أنها قفزت من سفينة ترامب وهي في أوج مجدها قبل أن تغرق السفينة في حالة خسارة الحزب الجمهوري سيطرته على المجلسين. وحتى إن لم تتم الإطاحة بترامب فسيكون ضعيفا مكسور الجناح ويوضع اللوم عليه وعلى سياساته وفريقه. وسيخرج الكل خاسرا بمن فيهم هيلي التي تعتبر نفسها واحدة من أهم نجوم إدارة ترامب.
أما النظرية الثانية التي تطرح هنا وفي وسائل الإعلام، فإن هيلي فقدت جاذبيتها بعد وصول الثنائي جون بولتون إلى الأمن القومي ومايك بومبيو للخارجية بدلا من ماكماستر وتيلرسون. لقد كانت هيلي تتصرف في عهد تيلرسون الذي خسر ثقة الرئيس وصقور الإدارة، وكأنها صانعة السياسة الخارجية الأمريكية بلا منازع. لقد ملأت بصراخها الدنيا وشغلت الإعلام في موضوع كوريا، لدرجة أنها هددت باستخدام القوة في مداخلاتها في مجلس الأمن، وكذلك في موضوع الانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران، واستخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، وموضوع فلسطين، خاصة استهداف الفلسطينيين في غزة. لقد بلغت بها الثقة بالنفس أن أعلنت عن رزمة عقوبات جديدة على روسيا، بدون تفويض من أحد، ما اضطر البيت الأبيض لأن يعارضها رسميا ويكسفها علنا. وعندما وصل بولتون وبومبيو إلى الموقعين الأهم، الأمن القومي والخارجية، تراجع دورها وابتعدت الأضواء عنها وتسلم زمام السياسة الخارجية من هو أقدر منها وأهم وأقرب إلى أذني الرئيس. فلماذا تستمر؟ وهل تنتظر إلى أن تطرد كما طرد العديدون من مساعدي الرئيس؟

أما النظرية الثالثة فيعود إلى أسلوب عملها وعنجيتها وفوقيتها، التي أرقت كثيرا من حلفاء الولايات المتحدة. فعلى قلة خبرتها في السياسة الخارجية كانت تتصرف وكأنها تحاضر وتعلم وتحذّر وترفع يدها. فقد أعلنت أنها ستأخذ أسماء الدول التي لا تصوت مع أمريكا وتتلقى المساعدات، وهي أول مرة في تاريخ الدبلوماسية يتم تحذير دول مستقلة والعمل على ابتزازها بالمساعدات التي تقدم لها، وهي ليست منة ولا تفضلا، بل قانونا واجبا حسب اتفاقيات دولية تسمى “المعاهدة الدولية لتمويل التنمية”. فقد أقر مؤتمر مونتيري (المكسيك) عام 2002 بالإجماع التزام الدول الغنية الصناعية بتقديم “مساعدة رسمية للتنمية” بقيمة 0.7% من ناتج دخلها القومي، لتغطية تكاليف التنمية المستدامة لدى الدول النامية. وقد اعتُبر هذا التوافق إنجازا عظيما، وأعيد التأكيد على نسبة المساعدة الرسمية للتنمية (0.7) في كافة مؤتمرات المراجعة، وآخرها المؤتمر الدولي الثالث لتمويل التنمية الذي عُقد بأديس أبابا 2015. وتتراوح المساعدات الأمريكية السنوية – المقدمة في معظمها عن طريق “الوكالة الأمريكية للمساعدة” (يو أس أيدز) ووزارتي الدفاع والخارجية – نحو خمسين مليار دولار، تعادل 1% من ناتج الدخل القومي، لكن معظمها يقدم لحلفاء الولايات المتحدة الخمسة الكبار على شكل مساعدات عسكرية وهي: إسرائيل وأفغانستان والعراق ومصر والأردن. لقد اعتبر ذلك التهديد خروجا على اللياقة الدبلوماسية. كما أساءت للعديد من الدول والمنظمات الدولية عندما قالت إنها تلبس الكعب العالي لا تماشيا مع آخر التقليعات بل لركل منتقدي إسرائيل في الأمم المتحدة، وهؤلاء يشكلون الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء، بمن فيهم حلفاء الولايات المتحدة الأقرب.

رحيل هيلي يشكل خسارة كبيرة للمنظمات الصهيونية والمتصهينة فقد جعلت قضية إسرائيل قضيتها وبطريقة مقززة

كما أنها خرجت عن اللياقة الدبلوماسية عندما قالت في مؤتمر للصهاينة بأنها أمرت الأمين العام أن يسحب ترشيح الفلسطيني سلام فياض مبعوثا خاصا للأمم المتحدة لليبيا، وأمرته أن يطلب من ريما خلف، الأمين التنفيذي، للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) سحب التقرير الذي أعده خبيران معروفان حول نظام الأبرثايد الإسرائيلي والضرر الذي ألحقه بالفلسطينيين، كما أمرته أن تكون المراجعة الشهرية للقضية الفلسطينية لا تقتصر على المسألة الفلسطينية، بل تشمل كل أنحاء الشرق الأوسط بما في ذلك اليمن وإيران وحزب الله وليبيا وسوريا. وقد خرجت عن اللياقة عندما علقت على إغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن: “كل ما يقوم به الفلسطينيون هو أن يشحذوا الأموال ويسبوا على الولايات المتحدة”، أي أنها حولت الشعب الفلسطيني إلى قطيع من الشحاذين.

لقد ادعت نيكي هيلي مرارا أن الولايات المتحدة عادت للقيادة في الأمم المتحدة، لكن الحقيقة غير ذلك. فما حصدته من فشل حول تمرير مواقفها سيبقى مثبتا في سجلها المخزي بالنسبة لقضية الشرق الأوسط، خاصة القضية الفلسطينية. فقد استخدمت الفيتو في مجلس الأمن مرتين – في قضية اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل مقابل 14 صوتا ضدها (19 ديسمبر/كانون الأول 2017) ووقفت هي وإسرائيل مع ست دول صغيرة في الجمعية العامة ضد مشروع القرار نفسه المتعلق بالقدس مقابل 129 دولة رغم تهديداتها (21 ديسمبر 2017). ثم تعرضت لنكسة أكبر عندما اضطرت لاستخدام الفيتو حول إدانة العنف ضد المدنيين في قطاع غزة وتوفير الحماية للمدنيين ضد 10 أصوات إيجابية وأربعة وفود صوتت بـ”امتناع” (1 يونيو/حزيران 2018) ثم قامت بطرح مشروع قرار من عندها على المجلس يدين حركة حماس ويحملها مسؤولية مجازر غزة، وكانت الصفعة الكبيرة عندما لم تجد أحدا يؤيدها وكانت يدها هي الوحيدة المرفوعة تأييدا لمشروع القرار. وعندما انتقل مشروع القرار إلى الجمعية العامة للتصويت عليه لم تجد هيلي من يؤيدها في التصويت ضده إلا إسرائيل وست دول صغيرة مقابل 120 صوتا إيجابيا (13 يونيو 2018)؛

وكم كانت بعيدة عن اللباقة الدبلوماسية عندما استفزت مشاعر كل العرب والمسلمين لأنها لم تقرأ التاريخ، عندما صرحت لـ”سي أن أن” حول قرار إعلان القدس عاصمة لإسرائيل: “إننا كنا ننتظر رد فعل عنيف من العرب والمسلمين بشأن قرار ترامب الأربعاء الماضي عن القدس كما قال الجميع بأن السماء سوف تقع على الأرض بعد هذا القرار”. ثم تابعت ساخرة: “وها هو الخميس قد مر والجمعة والسبت والأحد والسماء لا تزال في مكانها”.

قضيتها الأساسية دعم إسرائيل والثمن مقبل

الشيء الأكيد هو أن رحيل هيلي، يشكل خسارة كبيرة للمنظمات الصهيونية والمتصهينة المتفانية في تأييد إسرائيل مثل “الأيباك” و”مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” وهي واجهة إسرائيلية في العاصمة الأمريكية، وغيرها. لقد جعلت هيلي قضية إسرائيل هي قضيتها وبطريقة تكاد تكون ممجوجة ومقززة، فمثلا خصصت إحدى خطاباتها الشهرية فقط للهجوم على محمود عباس، وخطابا آخر للهجوم على حماس واتهمتها باستعمال المدنيين دروعا بشرية وآخر خطاب لها في مراجعة سبتمبر/ أيلول الماضي خصصت الخطاب للهجوم على إيران، علما أن إيران ليست موضوع البحث، بل الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. من المؤكد أن اللوبي الصهيوني وخاصة ستيف بانون مستشار الرئيس وجارد كوشنر صهره هما من كانا وراء اختيار “نمراتا رانداوا” لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة بالضبط، لأنها عديمة الخبرة في السياسة الخارجية وباستطاعة مستشاريها من غلاة اليمين تلقينها ما يريدون. وهو ما حدث بالضبط. ولا نعتقد أن دورها انتهى بل ستعود إلينا بشكل أو بآخر لإكمال خدماتها للمشروع الاستيطاني الإحلالي التفريغي الممثل في دولة الأبرتايد إسرائيل.

محاضر في مركز درسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية