في نحو السابعة من مساء الأحد 8 تشرين الثاني نشر وزير المالية التركي برات آلبيرق نصاً على حسابه الرسمي على موقع انستغرام، أعلن فيه استقالته من منصبه «لأسباب صحية» ليتفرغ للاهتمام بشؤونه العائلية التي اضطر لإهمالها طوال السنوات الخمس الماضية التي أمضاها في الخدمة العامة، وزيراً للطاقة ثم وزيراً للخزينة العامة والمالية.
وقع هذا الخبر، في الرأي العام التركي، وقوع زلزال بالنظر إلى أهمية الرجل في معادلات القوة في السلطة السياسية، فهو يدير وزارة من أهم الوزارات يرسم فيها الوجهة العامة للسياسات المالية والاقتصادية للدولة، في وقت تبدو فيها المشكلة الاقتصادية هي أم المشكلات في تركيا. إضافة إلى ذلك هو صهر رئيس الجمهورية في نظام يمسك فيه الأخير بكل مفاصل السلطة، وما يعنيه ذلك من استحواذ الوزير المستقيل لصفة «المقرّب» من مركز السلطة ورأسها. وقد تجلت أهمية الرجل في مناسبات عدة لعل أهمها لعبه لأدوار دبلوماسية لا علاقة لها بوزارته، فقد كان يرافق الرئيس في لقاءات القمة التي تجمعه مع قادة دول العالم، بل أكثر من ذلك، اعتمد أردوغان عليه فيما وصف بـ«دبلوماسية الأصهر» في العلاقة المعقدة مع الولايات المتحدة، ويشيع القول أن أكثر المواضيع حساسية بين البلدين كانت تدار من قبل صهر ترامب كوشنر وصهر أردوغان آلبيرق، قبل وصولها «ناضجة» إلى الرئيسين.
بالمقابل كان آلبيرق في مرمى نقد المعارضة التركية بصورة مستمرة باعتباره مسؤولاً عن الصعوبات الاقتصادية التي تفاقمت باطراد في سنوات ولايته. وهذا ما أضاف إلى أهميته أهمية بسبب الإجماع عليها، وإن بصورة متعاكسة، بين السلطة والمعارضة. يضاف إلى ذلك إمساك أخيه سرهاد آلبيرق بمفاصل «الإعلام الموالي» كما يوصف من قبل المعارضة والإعلام المستقل، ويدير شبكة «ترولز» في وسائل التواصل الاجتماعي يطلق عليها اسم «مجموعة بليكان» لعبت دور رأس الحربة في الإطاحة برئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو في ربيع العام 2016. وهكذا انشغل الرأي العام بالبحث عن إجابات على أسئلة كثيرة طرحتها استقالة الوزير، في حين شهدت الليرة التركية تحسناً ملحوظاً في قيمتها أمام العملات الصعبة فارتفع، خلال ساعات، من 8,5 إلى 8 ليرات للدولار الواحد، في حركة معاكسة لحركته المعهودة الهابطة باطراد. وفسر هذا التحسن النسبي بالشعور بالارتياح لاستقالة الوزير الذي قد يكون مؤشراً إلى تغييرات مهمة في السياستين المالية والاقتصادية في مرحلة ما بعد آلبيرق.
لم تقتصر الانتقادات الموجهة لآلبيرق على المعارضة والإعلام المستقل، بل تعرض لانتقادات من داخل الحزب الحاكم نفسه، أبرزها النقد الذي وجهه إليه عضو الهيئة الاستشارية العليا للرئاسة بولند آرنج، قبل يومين من الاستقالة
والحال أن الجميع يعرفون أنه لا آلبيرق «المقرب» ولا غيره من الوزراء يرسم سياسات وزارته بغير موافقة الرئيس، وهذا ما دعا رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كلجدار أوغلو إلى القول: «لا يمكن للسلطة أن تضحي بالوزير لإنقاذ الملك» في مجاز شطرنجي عبر به عن تطلعه إلى تغيير السلطة من أعلى قمة فيها. ونحا كثير من المحللين المعارضين والمستقلين النحو ذاته بوصف ما حدث بأكبر «تصدع» داخل السلطة وصل إلى مستواه العائلي، إضافة إلى تكهنات كثيرة بشأن أسباب وخلفيات الاستقالة.
غير أن الأغرب من الاستقالة ذاتها كان التزام «القصر» الصمت طوال 27 ساعة، ورافقه صمت مماثل في الإعلام الموالي الذي تجاهل الخبر وكأنه لم يكن أو لا أهمية له بالقدر الذي يتطلب تحويله إلى خبر، إلى أن صدر بيان مقتضب عن لجنة الاتصالات في القصر تحدث عن «قبول رئيس الجمهورية لطلب وزير الإعلام بإعفائه من مهمته». واهتم عدد غير قليل من المحللين السياسيين بمغزى استخدام تعبير «طلب الإعفاء» بدلاً من الاستقالة. فهو تعبير غير مستخدم في التعاملات الرسمية في الدولة التركية، ويعود إلى القرن التاسع عشر، أي إلى الإمبراطورية العثمانية. مع ملاحظة أنه لم يستخدم في حدث استقالة وزير الداخلية سليمان صويلو، في شهر نيسان الماضي، ولا في نص رفض الرئيس استقالته. وبين الوزيرين، صويلو وآلبيرق، منافسة وخصومة معروفين على التقرب من الرئيس ودائرته الضيقة، كما على احتمال خلافته في قيادة الحزب الحاكم والدولة. برفض استقالة الأول و«إعفاء» الثاني يكون الرئيس أردوغان قد حدد انحيازه بين الخصمين المقرّبين، من غير أن يعني ذلك بالضرورة أن صويلو أصبح أوتوماتيكياً «الرجل الثاني» فهناك تكهنات حول احتمال عودة رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم إلى الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس في أول تعديل وزاري قادم.
ولم تقتصر الانتقادات الموجهة لآلبيرق على المعارضة والإعلام المستقل، بل تعرض لانتقادات من داخل الحزب الحاكم نفسه، أبرزها النقد الذي وجهه إليه عضو الهيئة الاستشارية العليا للرئاسة بولند آرنج، قبل يومين من الاستقالة، بسبب تصريحاته المستخفة بهبوط قيمة الليرة التركية والمصورة لوضع الاقتصاد على أنه في أحسن أحواله. وآرنج هو من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، مع كل من أردوغان وعبد الله غل وله تاريخ طويل في الحركة الإسلامية، أبعده أردوغان عن دوائر السلطة قبل سنوات، ثم عينه في الهيئة الاستشارية بغاية احتوائه وإبعاده عن الحركات الانشقاقية بقيادة كل من أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان. في حين أن برات آلبيرق انضم إلى حزب السلطة من بوابة مصاهرته للرئيس، وكانت بداية انخراطه في السياسة من خلال مجلس النواب الذي انتخب إليه في العام 2015. وكانت أقلام قليلة في الصحافة الموالية تستهدفه بصورة غير مباشرة بالحديث عن «استبعاد مخضرمي الحزب من السلطة لمصلحة «دخلاء انتهازيين التحقوا بالحزب كحزب سلطة». لكن خبراً نقله الصحافي البارز مراد يتكين عن مصادر من داخل حزب الحركة القومية الحليف للسلطة يفوق كل ذلك: يقول التسريب إن الرئيس أردوغان كلف وزير الداخلية بالتحقيق في مزاعم مفادها أن ما بين 30-40 نائباً من نواب الحزب الحاكم هددوا بالانشقاق عن الحزب والانضمام إلى حزبي المستقبل و«دواء» ما لم تتم إقالة وزير المالية.
يبقى السؤال الأهم: «هل استقال آلبيرق أم أقيل، أو أرغم على الاستقالة؟» من غير جواب، مع ميل التخمينات إلى الاحتمال الثاني بدلالة الغرابات التي أحاطت بالحدث كإعلان الاستقالة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتضمينها ما يشير إلى خروج نهائي من الحياة السياسي، وكالصيغة الغريبة لقبول الاستقالة «الموافقة على طلب الإعفاء»! والصمت الطويل الذي سبق إعلان القبول هذا. لكن الإشارة الأهم لكونها إقالة كانت في تعيين مدير جديد للبنك المركزي، قبل يومين، يتوقع أن يرسم سياسات نقدية مختلفة عن تلك التي كان يفرضها آلبيرق على المدير السابق.
كاتب سوري