يلج سكان هذا الكوكب العام الميلادي الجديد بمشاعر متباينة وتطلعات متفاوتة. ولكن طبيعة النفس الإنسانية تدفع عادة للتفاؤل، فهو عنوان الحياة ومبرر الوجود. ومسار الحياة يعمّق منحى التفاؤل وعدم اليأس او الإحباط في أقسى الظروف. فما أكثر من يودعهم الإنسان الى قبورهم، ولكنه لا ييأس من الحياة، ولا يتمنى فراق الدنيا.
هذا الأمل يحدو للتطلع الى عام ميلادي جديد يسوده الأمن والخير برغم استشراء الوباء الذي كان التحدي الأكبر للإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فالإنسان الذي يتابع الأرقام اليومية للإصابات والوفيات، يعض على النواجذ متشبثا بالأمل بالخروج من هذه المحنة برغم ما يعتريه من توجس وخوف باستمرارها، وينظر للعام المنصرم أنه كان واحدا من الحقب المؤلمة في التاريخ البشري المعاصر. فجأة رأى الجميع عجز الإنسان الذي غزا الفضاء واخترق أعماق الأرض والبحر عن منع حدوث الوباء، وبذل عاما كاملا في البحث عن لقاح وعلاج، وما يزال غير مطمئن تماما لما تحقق في هذا المضمار. مع ذلك تفرض غريزة حب الحياة على قاطني هذا الكوكب أمورا عديدة: الاجتهاد لتفادي الاصابة بالالتزام بقواعد الحجر الصحي وارتداء الكمامات والنظافة، السعي المتواصل لتوفير اللقاح الفاعل الذي يخفف من انتشار الوباء، الالتزام بالتعاون والتضامن مع الشعوب الأقل نصيبا في مجال الخدمات الصحية أو الامكانات الاقتصادية لشراء اللقاحات وتوفير مستلزمات العيش لشعوبها، وامتلاك نظرة ايجابية للمستقبل تساهم في دفع تلك الجهود من أجل الصالح العام.
التغيير الإيجابي الحقيقي في العالم خصوصا في الشرق الأوسط يتطلب جهودا مكثفة من أبنائه، وثورة حقيقية، نفسية وفكرية، تكمل مشوار الربيع العربي وتفضي للتغيير المنشود
العالم إذن يلج السنة الجديدة بمشاعر تطغى عليها التجربة المرة مع المرض بشكل عام. ولكن ذلك لا يلغي مراجعة أوضاع العالم بشكل عام، لكي يمكن استشراف بعض ملامح المستقبل خلال الاثني عشر شهرا المقبلة. فاذا كانت هناك شعوب تعاني من الفاقة والفقر وقلة الامكانات الاقتصادية، فان الشعوب العربية تستعد لاحياء الذكرى العاشرة للربيع العربي الذي لم تسبقه تجربة سياسية مماثلة في اي مكان في العالم. وسيمتزج ذلك بالغضب الناجم عن التطبيع الاجرامي مع الاحتلال. فقبل عشرين عاما حدثت ثورات عديدة في الجمهوريات الآسيوية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، ولكن أغلبها حقق تغييرات سياسية ملموسة. كانت الحراكات الشعبية العربية غير المسبوقة التي اجتاحت بلدانا عربية عديدة تجربة امتزج فيها الأمل باليأس، بوتيرة غير مسبوقة او متوقعة. فعندما انطلقت الجماهير مطالبة بالتغيير السياسي في البلدان التي نشبت فيها لم تكن تتوقع أن تزداد أوضاع الحريات في بلدانها سوءا. فمن كان يتوقع أن يستولي العسكر على البلد العربي الأكبر بالنمط الذي اصبح مألوفا اليوم؟ من كان يعتقد أن «العالم الحر» سينقلب على قيمه ومبادئه ليتحالف مع انظمة الاستبداد لقلب الحقائق والموازين والتضحية بالنشطاء السياسيين والحقوقيين بأبشع صورة؟ وهل مر بذهن أحد أن التنكيل والقمع والعقاب الجماعي سيصل الى ما هو عليه الآن؟ فعندما تجمع الشباب في ساحة التحرير بالقاهرة، ومن بينهم من كان منتميا للأحزاب الإسلامية كالإخوان المسلمين واليسارية والقومية، هل كانوا يتوقعون أن يزداد النظام السياسي توحشا بدعم عربي ودولي؟ هل كانوا يتوقعون أن يتواصل دعم حكم العسكر وفي المقابل تعبأ الجهود كافة لمواجهة ظاهرة التغيير وروادها؟ من كان يظن أن قوى الثورة المضادة ستكون قادرة على تغيير الحقائق ليصبح الإخوان المسلمون «منظمة إرهابية» بينما يحتضن الرئيس الفرنسي الحاكم العسكري المصري ويزوده بالمزيد من الأسلحة ووسائل القمع؟ من كان يتوقع أن تنجح قوى الثورة المضادة بشيطنة كافة قوى التحرر العربية المناهضة للاستبداد من جهة والاحتلال من جهة أخرى والهيمنة الأمريكية ثالثا؟ من كان يستشرف أن اليمن سوف يعاقب لقيامه بالثورة بحرب ضروس تشتعل منذ قرابة ستة أعوام لأن شعبه انقلب على ما يسمى «المبادرة الخليجية» ويرفض الأطماع السعودية والإماراتية في أرضه؟ ومن كان يتوقع أن المؤسسة البريطانية ستلقي بثقلها وراء النظام السياسي في البحرين لدعمه برغم وقوف العالم الحقوقي ضد ممارساته التي شملت «الاضطهاد» على لسان المفوض السامي لحقوق الإنسان السابق، زيد بن علي، و»التعذيب الممنهج» كما جاء في تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق برئاسة المرحوم شريف بسيوني؟
وكما يقال: عش رجبا ترى عجبا. فهذا العالم الذي كان يتبجح قادته بتطورهم السياسي والديمقراطي والإنساني، كيف يستطيع قادته أن يعيشوا في حالة نفاق مستمرة لا تتوقف او تنقطع؟
يتحدثون عن العام الميلادي الجديد معبرين عن تطلعهم للأمن والسلام، وهم يعلمون أن ملايين البشر يعيشون في المخيمات أو السجون، يعانون الشتاء القاسي في مخيمات اللاجئين أو توحش أجهزة القمع الشرسة في السجون التي تكتظ بالسجناء السياسيين. من المؤكد أن أوضاع «العالم الحر» قد أثرت سلبا على أوضاع الشرق الأوسط. فوجود دونالد ترامب في الرئاسة الأمريكية أحدث خللا في التوازنات السياسية العالمية لغير صالح قوى التغيير او الاصلاح او السلام. بل ان أوضاع الشرق الأوسط ازدادت سوءا واضطرابا بسبب التدخلات الأمريكية السياسية والعسكرية. فوجود أساطيلها وقواعدها في الخليج لا يساهم في أمنه ابدا بل يضعه على حافة المواجهة بشكل دائم. ولو تركت المنطقة وشأنها لما حدثت هذه التوترات التي عبرت عن نفسها أحيانا بعمليات اغتيال واسعة في العراق واليمن وليبيا والصومال. ولذلك ما إن فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية حتى تنفس العالم الصعداء وتجددت آماله بمستقبل اقل توترا وكراهية وعنصرية. الأمر الملاحظ أن رئاسة ترامب كانت وبالا على أمريكا كما الشعوب العربية خصوصا الشعب الفلسطيني. وكان سقوطه المروّع من أسباب ذهول زعماء الاحتلال في فلسطين ورموز الاستبداد في البلدان العربية الاخرى.
وليس مستبعدا أن تتلاشى الآمال المذكورة بالتحول السياسي الأمريكي في عهد الرئيس المنتخب، جو بايدن، نتيجة تدخلات مجموعات الضغط الهائلة الممولة من السعودية والامارات والموجهة من «إسرائيل» لاعادة عقارب الساعة الى الوراء. وكان من نتائج رئاسة ترامب وسياساته تعملق بعض رموز الحكم في المنطقة خصوصا في السعودية ومصر والإمارات والبحرين، وتوسع نفوذ الاحتلال. فالحكام الذين يمسكون بمفاصل الحكم في هذه البلدان، واضحون في أولوياتهم: التطبيع مع المحتلين والتشديد مع المعارضين، والتصدي لأية محاولة لإحداث تغييرات ذات معنى بمنظومة الحكم السائدة في دول العالم العربي.
هذه الحقائق تجعل من الصعوبة بمكان التعبير عن آمال عريضة بتغير الأوضاع في العام الميلادي الجديد، ولكنها لا تلغيها. صحيح ان الميزان يرجح لصالح استمرار الوضع العربي الراهن الذي أصبحت الإمارات فيه اللاعب السياسي الأول، ولكن أوضاع الحكام الجدد لا تؤكد قدرتهم على احتواء الوضع بجهودهم الخاصة، وأن الدعم المطلوب من دول «العالم الحر» سيتلكأ نتيجة التغيرات السياسية والنفسية في أمريكا والاتحاد الاوروبي وبريطانيا. فسقوط ترامب وصعود بايدن سيؤديان لتغييرات أقل سلبية تجاه قضايا العالم، كما أن انشغال بريطانيا بتبعات الخروج من أوروبا وفشل حكومتها في التعاطي مع الوباء، يقلص دورها العالمي برغم تشبث المؤسسة البريطانية بتركتها الاستعمارية. التغيير الايجابي الحقيقي في العالم خصوصا في الشرق الأوسط يتطلب جهودا مكثفة من أبنائه، وثورة حقيقية، نفسية وفكرية، تكمل مشوار الربيع العربي وتفضي للتغيير المنشود.
كاتب بحريني