يتعرض الممثل العراقي إلى أبشع استغلال في ما يتعلق بالأجور البائسة التي يتقاضاها، وعلى وجه خاص في الإنتاج الدرامي «المسلسلات» ولن يجرؤ على الاعتراض، بل يواصل الرضوخ تحت سلطة المنتج المنفذ، لأنه يدرك بأن لا أحد سيقف معه إذا ما احتج، وسيبقى وحيدا ومخذولا من زملائه، لأن كل واحد منهم يدرك جيدا أن المقاطعة تنتظره في أية أعمال قادمة، إذا ما احتج أو تضامن مع من يرفع صوته معترضا على عملية الاستلاب التي يمارسها المنتجون المنفذون.
وفي هوليوود يواصل عشرات الممثلين وكتاب السيناريو التظاهر أمام أبواب شركات الإنتاج، من بينهم أشهر النجوم، أمثال سوزان لانجر وميريل ستريب وجنيفر لوبيز وبن أفليك، احتجاجا على ما يتعرضون له من استغلال بخصوص أجورهم، ولكي يؤكدوا على أحقية مطالبهم، أعلنوا إضرابا عن العمل، رغم ادراكهم لخطورة موقفهم، لأن شركات الإنتاج لن تعجز عن إيجاد البدائل، خاصة وأنها بدأت تراهن على الذكاء الاصطناعي في أن يحل مقام الكثير من المهن التي تدخل في صناعة الإنتاج الدرامي والسينمائي، مثل مهنة التمثيل وكتابة السيناريو وغير ذلك من الحرف. ولكن مهما حاولت شركات الإنتاج التهرُّب من المواجهة، وبكل الأساليب التي قد تعمل عليها حتى تستمر عمليات الاستغلال التي تمارسها بحق الممثلين وكتاب السيناريو، فإنها بالتالي ستخضع أمام قوة الموهبة البشرية، التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون بديلا عنها أبدا.
الفارق كبير في صناعة الإنتاج ما بين بغداد وهوليوود، من حيث الحرفية وكمية ونوعية الإنتاج، لكن هذا لا يمنع أن هناك اشكالية تجمعهما معا، عنوانها استلاب جهد أعداد كبيرة من الممثلين الذين يضطلعون بأداء الشخصيات غير الرئيسية بالعمل، وهؤلاء لا يقلون أهمية عن النجوم في قيمة حضورهم ومشاركتهم، وليس من الممكن أن يكتمل العمل من دونهم، وهنا ليس المقصود الكومبارس، إنما الشخصيات المساندة للممثل النجم. ومحنة هذه المجموعة من الممثلين تكمن في أنهم لا يقلون موهبة وقدرات احترافية عن الممثلين النجوم، لكن ظروفا خاصة تتعلق بكل واحد منهم وضعته في ما هو عليه من تصنيف لا يتيح له أن يقدم نفسه بالشكل الذي يعكس حقيقة إمكاناته وأمام ما يطمح إليه من ارتقاء في مهنته وحضوره.
الفاشسينستات ومساومات المنتج المنفذ
لكن الحال في بغداد أسوأ من ذلك بكثير، لأن الممثلين الذين يحسبون في قائمة النجوم، لا فرق كبير بينهم وبين زملائهم من الممثلين الذين يساندونهم في أداء الشخصيات الثانية والثالثة. فالشكوى يمكن أن نسمعها من الجميع دون استثناء ومعهم يشترك في هذه الهموم كتاب الدراما أيضا.
هناك عملية مساومة تجري مع الممثل العراقي من قبل المنتج المنفذ حول أجوره في العمل عندما يُعرض عليه المشاركة في أي عمل درامي، حيث لا يترك أمامه أي خيار للتفاوض، طالما أختار المنتج المنفذ أن يلوّح بورقة البديل، باعتبارها وسيلة ضغط مضمونة النتيجة، وذلك بأن يستعين بممثل آخر لديه الاستعداد أن يرضى بأبخس أجر، لمجرد أن يوفر لنفسه ولعائلته لقمة العيش، وأمام هذه المساومة التي تضرب عرض الحائط بقيم الانصاف والعدالة، لا يستطيع الممثل إلاَّ أن يخضع لابتزاز المنتج المنفذ ويوافق على أضعف أجر يُعرض عليه.
لم تتوقف عملية محاصرة الممثل العراقي عند هذا الحد بل ظهر ما هو جديد خلال الفترة الأخيرة، إذ بدأت الفرص تنحسر أمام الممثلين، عندما بدأ المنتج المنفذ يفضل أن يمنحها للفاشسينستات والبلوكرات ومشاهير مواقع التواصل الاجتماعي الذين لديهم نسب عالية من المتابعين، من أجل استقطاب الجمهور، حتى لو كان ذلك على حساب فقدانهم لموهبة التمثيل.
حتى هذه اللحظة لم يتبلور موقف جماعي من قبل الممثلين العراقيين ضد هذه الحالة التي يعانون منها منذ سنين، وإذا ما أردنا أن نتتبع بداياتها، فإن تسعينات القرن الماضي كانت قد شهدت بروز أولى ملامحها بعد أن تعطل الإنتاج الدرامي الحكومي عبر المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون التي كانت الجهة الرئيسة في التمويل، والأجور التي كانت تدفعها منصفة إلى حد كبير للممثل العراقي. إلاَّ أن تراجع مستويات إنتاجها من حيث الكم خلال فترة الحصار بشكل كبير جدا، فتح الباب مشرعا أمام أشخاص لا علاقة لهم بالعملية الفنية فأسسوا شركات إنتاج هي في الحقيقة لا يصح أن تسمى كذلك، لأنَّ من يقف خلفها لا تتوفر في شخصيته أي مواصفات مهنية يمكن أن تؤهله لإدراك القيم التي ينبغي أن تتوفر في العمل الفني الدرامي.
لا خلاف على أن لكل مهنة أصولها وتقاليدها وأخلاقياتها، والفن من بين جميع المهن يتفرد عنها بما يحمله من رسائل يبثها في خطابه، والأهمية والخطورة تكمن في هذه التفصيلة. لذا كان من الطبيعي أن لا ينال جهد الممثل ما يستحقه من التقدير والاحترام من حيث الأجر الذي ينبغي أن يتقاضاه، إضافة إلى رداءة ما تم إنتاجه طيلة فترة تسعينات القرن الماضي حيث حلت المطربات الغجريات والراقصات ومطربات النوادي الليلية، بدلا عن الممثلات المعروفات وتصدرن الأعمال المنتجة، وهذا لأن من يتولى العملية الإنتاجية لديه قصور فادح في فهم وتقدير العمل الفني.
ولم يتوقف هذا الانهيار حتى بعد العام 2003 ولربما إزداد سوءا بعد أن دخلت على الخط شخصية المنتج المنفذ الذي يتولى مسؤولية إدارة الإنتاج، باعتباره ممثلا أو وكيلا عن شركات تأسست في دول الخليج العربي إضافة إلى القنوات الفضائية العراقية التي دخلت سوق الإنتاج وباتت المتحكم الأوحد في مسألة الأجور. وما يؤسف له أن من تولى هذه المهمة الكثير منهم لم يختلف في تعامله مع جهد الممثل العراقي عن أولئك الذين ظهروا خلال فترة الحصار، دون مراعاة لما حصل من تغيرات كبيرة في الجانب الاقتصادي وفروقات الأسعار والمعيشة، هذا إضافة إلى أن التباين أمسى شاسعا جدا بين أجور الممثل العراقي، إذا ما قورنت بأجور زملائه السوريين والمصريين والخليجيين عندما يتم الاستعانة بهم في أعمال عراقية.
أين نقابة الفنانين العراقيين؟
نقابة الفنانين العراقيين من جانبها لم يكن لها موقف من هذه القضية، حيث لم يصدر عنها أي تحرك باتجاه إنصاف حقوق الممثل من حيث الأجر، وكان من الأولى أن تعمل على إصدار تعليمات واضحة تحدد فيها السقف الأدنى للأجور، ترغم بموجبها الجهات المنتجة الالتزام بها، وقبل ذلك عليها أن تضع تصنيفا للممثلين (درجة أولى، ثانية، درجة ثالثة، وهكذا) حسب شروط ومواصفات لا خلاف عليها، مثلما كان معمولا به في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون قبل العام 2003.
اليوم هناك حركة إنتاج درامي تتسم بالحيوية، وهذا ما بدا واضحا خلال العامين الماضيين، حيث أُنتج العديد من الأعمال الدرامية العراقية، ومن المؤمل أن تتصاعد وتيرة العمل خلال الأعوام المقبلة، ولهذا لابد من إيجاد أرضية جديدة مدعومة من نقابة الفنانين، يستطيع الممثل العراقي من خلالها أن ينال ما يستحقه من أجور تكفل له الاستمرار في مهنته، وتضمن له العيش بكرامة دون أن يكون فريسة للعوز.
فهل سنسمع صوتا احتجاجيا جماعيا من قبل الممثلين العراقيين، يطالب بايقاف عمليات استلاب جهدهم من قبل المنتج المنفذ؟