‘المشكلة في العراق هي في الدولة العراقية ككل وليس في وزارة معينة’… وهذه الدولة في الوقت الحاضر ‘غير قادرة على القيام بأي مشروع كبير ناجح بسبب الوضع الأمني’… قائل هذا الكلام ليس معارضا عراقيا شرسا بل أحمد الجلبي رئيس حزب المؤتمر الوطني العراقي وأحد أبرز من أوصل العراق إلى ما هو عليه اليوم.
الجلبي وفي مقابلة مع تلفزيون ‘الفرات’ العراقي الأحد الماضي ساق مجموعة من الأرقام المخيفة عن الوضع في بلاده منها أن ‘المواطن العراقي لا يشعر بالأمان رغم أن الدولة تدفع شهريا مليارا وربع المليار دولار رواتب لمليون وربع مليون جندي وشرطي وعناصر حماية وأن ‘العراق دخل إليه نصف ترليون دولار منذ سقوط النظام السابق، لكن ثلثي الميزانية تذهب نفقات تشغيلية، فالدولة تدفع ما يزيد على 3 مليارات دولار شهريا كرواتب وتقاعد، فضلا عن رواتب القوات المسلحة’. ويضيف الجلبي إن ‘البنك المركزي العراقي باع خلال ست سنوات ما يصل إلى 210 مليارات دولار إلى البنوك المحلية، ولكن عندما تسأل من أين تأتي هذه البنوك بالدينار لشراء الدولار لا أحد لديه جواب’، مشيرا إلى أن مئات ملايين الدولارات تم تحويلها عبر شركات الصرافة إلى الإمارات والأردن.
عندما تقف على مثل هذا التشخيص من أحد أبرز المطلعين على الوضع العراقي من الداخل، لا يمكن إلا أن يزداد التشاؤم قتامة خاصة في وقت يتواصل فيه قتل العراقيين في الشوارع والمقاهي والمساجد وحتى في مآتم العزاء بحيث سقط في الأشهر الثلاثة الماضية فقط 2500 مواطن من بينهم 600 منذ بداية الشهر أي بمعدل 26 ضحية يوميا وسط نوع من اللامبالاة الشاملة.
يحدث كل ذلك رغم أن الدولة أنفقت هذا العام أضخم ميزانية على الأمن والدفاع طوال العشر سنوات الماضية بل ويجثم خطر أن تتحول هذه ‘الحرب القذرة’ كما وصفها الناطق باسم عمليات بغداد إلى حرب أهلية واسعة النطاق كما حذر من ذلك أكثر من طرف داخلي وكذلك الأمم المتحدة. ولهذا فالمسألة تبدو أكبر من مجرد اعتمادات مالية تخصص لهذا الجهاز أو ذاك طالما أن الكل يتحرك وفق منظومة أمنية مهزوزة تفتقد الرؤيا الواضحة بسبب الوضع السياسي العام الهش الذي يتحمله بالدرجة الأولى رئيس الحكومة نوري المالكي وفريقه.
المالكي ورغم كل المصائب الحاصلة لا يرى وجاهة في ترك منصبه بل إن جماعته ترى في ما يحصل حاليا من تصاعد في وتيرة القتل والتفجيرات أيادي خارجية تتجاوز قدرة أي تنظيم إرهابي، بل هي، دول على الأرجح تسعى، كما يعتقدون، إلى مزيد من الدماء في الساحة العراقية إرتباطا بالوضع في سوريا وموقف حكومة المالكي المؤيد لنظام الأسد في منظومة واحدة متكاتفة مع إيران. لم يتهم هؤلاء دولة بعينها لكنهم يرجحون هذه الفرضية بشكل أقوى من أي اعتبار داخلي آخر يدين المالكي قبل أي مسؤول آخر. ولا يملّ هؤلاء من تكرار أن الهدف من كل ما يحصل الآن في العراق هو إسقاط العملية السياسية في البلاد عوض انتظار بضعة أشهر قليلة متبقية لموعد الانتخابات المقبلة التي يمكن من خلالها تغيير مجمل الأوضاع.
لا يعرف بعد ما الذي يمكن أن تقود إليه مجددا دعوات مقتدى الصدر إلى تنحي المالكي والانتفاضة على حكمه، في وقت خذل فيه كثيرون التحرك الشعبي الواسع قبل بضعة أشهر، وكذلك دعوة القائمة العراقية له بالاستقالة في وقت أثبت فيه رئيس الوزراء قدرة فائقة على استغلال التناقضات واستعادة الولاءات الضائعة وكسب أخرى جديدة . الشيء الوحيد الأكيد أن مجمل الطبقة السياسية في العراق فقدت ثقة الناس في قدرتها على تغيير الأوضاع نحو الأحسن وأنها جميعا بدرجات متفاوتة فاسدة حتى النخاع ما يجعل المأساة العراقية مفتوحة أكثر للأسف الشديد نحو أيام أكثر سوادا وأكثر دما.
مقال يشبه كثيرا مقالات الاستاذ عبد الباري عطوان