يتم تطبيع فكرة الاستيطان في قطاع غزة مرحلة تلو أخرى. اعلنت موريا أسرف في القناة 13 بأنها “فكرة مشروعة”، ولم تصب ليمور لفنات بالصدمة من الفكرة بل من توقيعها، وذلك في برنامج “منطقة اختيار”، وهو البرنامج الرئيسي للجمهور الليبرالي. وأوضح نتنياهو بأن “هذا الأمر غير واقعي الآن”. يتم توثيق أحداث الإعداد للاستيطان في التلفزيون كأحداث مفرحة.
هذه قصة إسرائيلية معروفة: ما كان بالأمس “خيالياً” وينطوي على كوارث ويعارض المصالح الوطنية، بات الآن “مشروعاً” وفي الغد “واقعياً”. هذا يحدث أيضاً لأفكار إعادة الحكم العسكري في غزة وإعادة احتلال منطقة أمنية في لبنان.
زعماء الاستيطان يختفون وراء المبررات الأمنية، مثلما قال وزير المالية سموتريتش. “أينما توجد مستوطنات سيكون جنود، ولذلك سيكون أمن”. هذا بحد ذاته حلم مدهش يحتاج إلى كتائب جنود لايجاد حلقات دفاع حول المستوطنات المحاصرة والمكشوفة لمليوني إنسان في قطاع غزة. ولكن المبرر الأمني هو آلية تطبيع أخرى.
أوضح بن غفير بأن الاستيطان مقرون بالترحيل، أو ما يسمى باللغة المغسولة “التشجيع على الهجرة”، الذي هو حسب تعريف عمانويل كانت من “كريات أربع” [مستوطنة] “الحل الأخلاقي”. وتبين ماي غولان أنها مفكرة صهيونية، وأوضحت بأن “من حاول إلحاق الكارثة بنا يجب أن يتلقى نكبة”، أي ليس “ترانسفيراً أخلاقياً” بل طرد الملايين.
حركة الاستيطان الجديدة ليست على صيغة “دونم آخر ومنطقة عسكرية مغلقة أخرى”. حركة الاستيطان هذه هي حركة “أرض إسرائيل بدون عرب من النهر وحتى البحر”. صورة مرآة لحلم حماس الذي أصاب أتباعاً أغبياء في أرجاء العالم.
يجب القول بنزاهة، كما يقول الشعار، بأن حلم أرض إسرائيل بدون عرب يرافق الحركة الصهيونية منذ الولادة. بدأ هذا بشعار بريء، “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”. أرض فارغة تنتظر الطلائعيين من أجل استيطانها واحتلال كل الأراضي القفر وتجفيف المستنقعات. قرى ومدن صغيرة عربية كانت تنتشر في حينه في أرجاء البلاد، لكنها لم تشوش حلم الأرض الفارغة. وخطة التقسيم وتقسيم البلاد بعد الحرب في 1948 لم تقتل هذا الحلم. في حرب الأيام الستة، هرب الكثير من اللاجئين إلى الأردن، ووجدوا هناك مخيمات جديدة للاجئين. ثلاث قرى في سهل “أيالون” [اللطرون] أخليت ودمرت في الليلة الأولى للحرب. الحلم لم يمت. حزب شرعي في الكنيست طالب بـ “الترانسفير الطوعي”، برئاسة جنرال احتياط، الذي يمول إرثه بالملايين من حكومات مختلفة حتى الآن.
كلما ظهر أن هذا الحلم الأقل واقعية يزداد التوق إليه. ظهرت فكرة عرض الأموال على الفلسطينيين بسخاء، وهم سيغادرون البلاد بجموعهم. قال يوسي بيلين ذات مرة إنه تم تسجيل بضع عشرات من أجل إعلان مغر للهجرة. الفلسطينيون يلتصقون بالأرض، ما يسمى الصمود، كقيمة أساسية وخيار وحيد. الخيار الوحيد الواقعي لتطبيق حركة “من النهر حتى البحر” اليهودية هو حلم ماي غولان: نكبة أخرى.
حلم الأرض الفارغة خفت كما يبدو مع مرور السنين وازدياد عدد الفلسطينيين. أصبحت القرى مدناً، وبات فلسطيني من البحر حتى النهر مقابل كل يهودي من البحر وحتى النهر؛ الملايين مقابل الملايين. في 7 تشرين الأول، الذي كان يجب علينا فيه فهم خطأ الغطرسة وقيود القوة والحماسة التي تشتعل في الطرف الثاني، يتعاظم الحلم ويحتل المزيد من الجمهور، وأصبح لا يخجل ولا يغلف نفسه بكلمات مغسولة.
يندفع الحلم برقصات صاخبة من بين الأنقاض، وينتشر بعيداً أكثر من أتباع عنصرية كهانا. في هذيان الاستيطان في قطاع غزة، ثمة شرط ضروري أخرجته الكاهنة من الكوابيس، دانييلا فايس: غزة نقية من العرب. “لو أصبح في غزة 200 ألف فلسطيني بدلاً من المليونين، لبات كل شيء أسهل”، قال سموتريتش، ونحن نستمع ونجري المقابلات ونتناقش بلغة خفيفة ونطبع.
مهمات كثيرة وضعتها الحركة الصهيونية لنفسها طوال الـ 140 سنة من عمرها. تحقق الكثير منها بطريقة مؤثرة. فشلت مهمة واحدة وتم إبعادها عن الطاولة، وعندما طرحت نزلت على الفور، وهي مهمة العثور على طريقة للعيش مع الشعب الذي فرض علينا أن نكون شركاء له في نفس قطعة الأرض. هم لن يذهبوا إلى أي مكان، ونحن لن نذهب إلى أي مكان. كثيرون منهم شركاء في صورة المرآة لنفس الحلم: فلسطين من البحر حتى النهر خالية من اليهود.
إذا لم نعرف كيفية التخلص من أصحاب هذه الأحلام الكاذبة، والفهم بأن إنهاء النزاع هو المفتاح لمصير دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني، فلن تقوم لنا قائمة. ليس كشعار كاذب للناسخ الوطني، بل كإمكانية وحيدة لاستمرار وجود دولة إسرائيل.
روبيك روزنطال
هآرتس 4/11/2024