اعتقال عبدلكي وموّال أصالة وجبن وشنكليش

حجم الخط
0

استأذنَ من المخرجة أثناء التصوير ليذهب ويطعم الحمَام، سألتْه إن كان قد أحضرهم ليطعمهم أم ليرسمهم، ردّ بأنه أحضرهم منذ سنتين ليرسمهم إلا أن ما فعله من حينه كان مجرّد إطعامهم، لقطة من الفيلم القصير ‘مع عبدلكي’ للمخرجة روشاك أحمد عن الفنان السوري يوسف عبدلكي.
عبدلكي الذي اعتقله الأمن السياسي على حاجز في مدينة طرطوس الساحلية في 19 تموز/يوليو مع قياديّين آخرين في حزب العمل الشيوعي، هو عبدلكي الفنان الذي أعتُقل سابقاً لثلاث سنوات والذي عاش ما يزيد عن الربع قرن في منفاه الباريسي، هو ذاته عبدلكي أحد أبرز الفنانين ورسامي الكاريكاتور العرب الذي تحوي العديد من المتاحف العالمية أعمالاً فنيّة له.
لكنّه أيضاً فنان معتقل لم يعره الإعلام العربي الاهتمام المستحق وهو الذي عاش مناضلاً ومعارضاً لنظام الأسد الأب ثم الابن وقد ضحّى، وما يزال، من أجل ذلك، بخلاف الكثير من المعارضين الجدد – المستجدّين بالأحرى- نجوم الفضائيات وضيوفها المحبّبين. أي تكريس إعلامي سيناله أحدهم لو استبدلناه بعبدلكي؟ ليس هذا ما أتمناه، بل الحرّيةَ لكامل سوريا بسورييها وفلسطينييها، ما أريده هو فقط التنويه بأن الاهتمام الإعلامي الذي عادة ما يظهر فجأة وبغرابة وإفراط، لا يحرّكه تاريخ الشخص المعتقل النضالي ولا قيمته الفنّية والثقافية بقدر ما تحرّكه طلاته الإعلامية الأنيقة وألفة الوجه عند المشاهد.
عبدلكي لم ينل ما يستحقّه من الاهتمام الإعلامي، لا كفنان ولا كمعتقل سياسي مارس معارضته بسلمية عبر لوحاته (اللهم فقط استخدم سكّين الرسم لهذه اللوحات). عبدلكي سيفتقده الحمَام الذي يحرس بيته إلى حين عودته أكثر مما يفتقده أو يتفقّده الإعلام العربي.
صحافياً، كُتب في عبدلكي وعنه إثر اعتقاله ما يمكن أن يفي هذا الرجّل حقّه بحدّه الأدنى، رغم أني أعتقد أن صحف العالم أجمع لن تفي أي معتقل سياسي حقّه ما لم تساهم فعلياً في إطلاق سراحه. في حالة اعتقال كهذه يمكن أن نرى فرقاً شاسعاً بين الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي. الأولى يساهم في تشكيلها مثقّفون، في الثانية لا يسمح رأس المال الذي يديرها بمساهمةٍ إلا بما يتّفق ومصالحه إعلامياً وإعلانياً، وهو بمعظم الأحوال ما لا يتناسب وأخلاقية المثقف، وهو حال القنوات العربية، الإخبارية منها تحديداً.
قناة ‘فرانس 24’ قد تتميّز عن باقي القنوات باهتماماتها وتنويع هذه الاهتمامات لتشمل الفنون بالمجمل، يساهم في ذلك على الأغلب تحرّرها من سطوة الرأسمال العربي والأنظمة الحاكمة إضافة لوجودها في باريس تحديداً، والخط التحريري للقناة في تناول الشؤون العربية يمنحها بعض المصداقية بالمجمل. القناة هذه عرضت الفيلم، ومنحت عبدلكي، الفنان الشيوعي المعتقل، مما منحته بعض الصحافة المكتوبة، وهذه ميزة للقناة لا للصحف.
ما عساي هنا إلا أن أتمنى الحرية لعبدلكي وجميع المعتقلين في السجون السورية، ولسورية البلد والحضارة والفنون، من سطوة البعث. وللقنوات العربية أتمنى اهتمامات أشبه بما لدى زميلاتها المطبوعة.

موّال أصالة الفلسطيني

(يومْ انتفض شعبي أنا صاح الحجر دَرعا، فلسطين سيفا بحلب وبحمصها دِرعا. يا رايح تزور القدس عم حلفك دِر عا، بيوت الأهل شوف الحباب وبوّسلي التراب).
هو الموال الذي غنّته الفنانة السورية أصالة نصري في حفلتها في فلسطين والذي كتبه رامي العاشق وهو شاعر فلسطيني سوري، وبثّت الحفلة إحدى القنوات المحلّية. لأصالة مواقفها المتماثلة مع مواقف الأغلبية الساحقة من الشعب السوري في تأييد الثورة، بخلاف العديد من الفنانين المنتفعين من نظام الأسد فانحازوا له وصاروا – أو: ما زالوا- يتاجرون بإسم فلسطين وقضيتها. الفرق بينهم وبين أصالة أن الأخيرة لم تكتف بموقفها المؤيد للثورة والذي أعلنته في مرحلة مبكّرة من زمن الثورة، ولم تتاجر بقضية فلسطين وتبرّر قتل الفلسطينيين في سوريا، بل ذهبت إلى تلك البلاد المحرّمة التي يتجنّب الكثير من المثقفين والفنانين زيارتها بحجّة الاحتلال، وغنّت للفلسطينيين هناك. هي بالمناسبة الحجّة والمسألة ذاتها التي أساءت لمثقفين وفنانين عرب وفلسطينيين كان من بينهم محمود درويش.
اختارت أصالة أن تذهب إلى تلك البلاد وتغني لشعبها، ولا أرى ذلك غير سلوك منسجم تماماً مع مواقفها المؤيدة لحقوق الفلسطينيين، ومواقفها الشجاعة المؤيدة لثورة شعبها من بداياتها. سننتظر أن تغنّي أصالة الموال ذاته في درعا ودمشق.

رغدة المستنفرة أبداً

في المقابل، ظهرت الممثلة السورية رغدة، والتي باتت معروفة كـ ‘فنانة مؤيدة للنظام’ أكثر من أي أمر آخر، في برنامج ‘سمر والرجال ولكن’ على فضائية ‘القاهرة والناس’. ظهرت رغدة مرتبكة، وهو وضعها الذي تعوّدته كلّما ظهرت إعلامياً كحالة استباقية لسؤال قد يرِدها بخصوص تأييدها للأسد، ظهرت في الحلقة مستنفرة لأي سؤال من هذا القبيل. مقدّمةُ البرنامج كانت من الذكاء بمكان جعلها تؤجل هذه الأسئلة إلى الدقائق الأخيرة من الحلقة التي بدأتها بأسئلة عن رغدة ‘الممثلة’ ‘والامرأة’ وغيره من هالحكي، ليس رغدة ‘المؤيدة للنظام’.
في الحلقة عرفنا أنه بالنسبة لرغدة فإن الممثلة السورية سلاف فواخرجي نجمة، نجمة أوي. أما زميلتها كندة علوش فلا لأ لأ لأ خالص، لأن السينما هي التي تصنع تاريخاً للفنان وليس الدراما التلفزيونية. هنا أخبرتها المذيعة وبكل أدب أن مساهمات كندة السينمائية على فكرة تفوق مساهمات سلاف، فتأتأت رغدة وأدخلت كذا كلمة ببعضها إلى أن انتشلتها المذيعة من الموضوع برمّته. نفهم أن سلاف نجمة لا لرصيدها التلفزيوني أو السينمائي، بل لتأييدها النظام وهو تأييد يكاد يفوق تأييد رغدة مغالاةً (من الأول احكي هيك).
على كل حال، كل الاحترام لا لكندة وأصالة فحسب – أصالة التي لن تسامحها رغدة لموقفها المؤيد للثورة – بل للنتاجات الفنية التي تشارك في صناعتها كل منهما. وذلك أخلاقياً وقبله، فنياً.

بعض الجبن والشنكليش

في حديث موازٍ عن الفنون، فنون شعوب لا تعيش ما نعيشه من قصف بالسكود وبراميل التي إن تي وغاز السارين، بثّت قناة ‘فرانس 24’ في برنامج ‘فن العيش’ تقريراً عن جبن ‘الروكفور’ الفرنسي المعروف بطعمه القوي (والرائحة العفنة اللذيذة في الحقيقة)، والذي يُصنع في مكان واحد في العالم هي بلدة روكفور (سقى الله أيام حلاوة الجبن الحمصيّة من عند ‘أبو اللبن’ على طريق الجسر). وحسب التقرير فقد أبصر هذا الجبن النور في القرون الوسطى (القصف يحيل سوريا إليها ع كل حال)، وهو يخزّن في كهوف طبيعية في البلدة لسنوات طويلة.
يُصنع هذا الجبن من حليب نوعيّة محدّدة من الأغنام، من سلالة ‘لاكون’ صاحبة العنق والأذنين الطويلة (حسب التقرير، عن جد)، وتوجد في مناطق محدّة تحيط بالبلدة. أمّا بالنسبة لأكل هذه الجبنة، فإما مع الكرواسان مسخّنا بالفرن، أو هريس الكستناء أو مع شريحة من الإجاص أو الموز، أو مغمّساً بالشوكولا. ما أشبهها بالشنكليش.
هل في تلك التفاصيل أي علاقة بالفنون؟ نعم إن اعتبرنا صناعة الطعام، لا مجرّد إعداده، عملاً فنياً يمكن تذوّقه، بالمعنى الحرفي للكلمة (والشنكليش كذلك فنّ بشكل من الأشكال).
التقرير يحكي عن شعب مهووس بالجبن، بأنواعها وأشكالها ومذاقاتها وألوانها. في فرنسا يسهل أن تجد محلاً متخصّصاً ببيع الجبن على الطريق، تماماً كما يمكن أن تجد مخبزاً أو ملحمة. أما في المطاعم، في أي منها، تجد الجبن في المقبّلات وتجدها في الوجبة الرئيسية وفي المُحلّيات. هؤلاء أناس مهووسون بالجبنة يا معلّم، والهوس هذا عادة حياتية أكثر مما هو ترف. وسيرة الجبن هذه يمكن أن تحملنا بعيداً عن واقعنا بحروبه وثوراته كما أرى. آمل أن نصل يوماً ما لهوسٍ شبيه بما لدى الفرنسيين، من ماذا يشكو الشنكليش؟

خلصنا من المسلسلات

يُقال بأن رمضان هو شهر التلفزيون، لم أكن يوماً على تصالح مع هذه العبارة. ليس لي على الأقل، ليس شهر التلفزيون لدي (ولا شهر العبادات بطبيعة الحال). انتظرت أن ينتهي الشهر لتخرج التلفزيونات من سوق المسلسلات والبرامج الترفيهية التي تُعرض على مُشاهد أتمّ إفطاره للتو ليكمل في جلسة مطوّلة ملئ معدته إلى أن يحين موعد السحور، والقائمون على البرامج يعرفون أنهم يعدّونها لهذا المشاهد تحديداً، فما الذي نتوقّعه من برامج تُعدّ على هذا الأساس؟
العديد من البرامج الجادة والسياسية والثقافية تتوقف أثناء رمضان، ليش؟ تحل محلّها مسلسلات قد يكون بعضها جيّد لكنها تخضع لقوانين سوق مزدحم اسمه ترفيه الصائمين. أنا سعيد أن هذا الشهر الكريم انتهى لتعود بعض البرامج التي قد أجدها جديرة بالمتابعة ولو بتقطّع، بعيداً عن الجبن والشنكليش.
لم يكن سهلاً بالمناسبة إيجاد مواد لهذه الزاوية خلال شهر رمضان كوني حاولت تجاهل جميع البرامج المخصّصة لهذا الشهر وقد نجحت مبدئياً في ذلك.

كاتب فلسطيني
Twitter: @saleemalbeik

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية