“وسألت عن شجر قديم، كان يكتنف الطريق إلى التلال/ وبحثت عن-غزة-دون جدوى/ وانتبهت إلى رماد نازل من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال”
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الفلسطينيين وحدهم يستطيعون أن يتحدثوا عن أمل ممكن ينبجس من دفقات الدّم ووضوح الموت.
المقاومة عندهم تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا، وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام كل العالم أنّ الاستعمار غير مقبول وأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة –اليانكي-وإجرامية- المحتل- وعماء الدول الكبرى المتفرّجة على الدم الفلسطيني وهو يراق عل الإسفلت !
أكتفي بأن أتابع المشهد. أنام وأصحو لأحصي عدد الشهداء، أتابع مواكب الدّفن، وأسترق السّمع لصراخ الثكالى وهو يخترق سجوف الصمت العربي…
من أيّ موقع، إذن، أتكلّم ويكون لكلامي معنى أو ثقل ؟!
أيها الشهيد المسافر عبر الغيوم الماطرة: أوقعتك القافلة سهوا عنك، سهوا عنّا ومضيت قُبيل انبلاج الصباح دون وداع، فحين اكتفى العالم بالتفرّج على الدّم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قياميّ مروّع بإتجاه المقابر…
ولكن…الرجال الأنقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ، ويرحلون كومضة في الفجر، كنقطة دم، ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر…
ماذا تبقّى؟
استنكارات تذروها الرّياح زبدا وطواحين ريح… دبابات وقتلة مأجورون… عساكر… قتل وحشي… جنائز تسير خببا باتجاه المدافن… بيوت-غزاوية- يجتاحها النّوح بعد أن أصبحت خرابا… قلوب يداهمها الوجع كاسرا. ثكل ودمع ولا عزاء… وغيوم رمادية في سماء غزة…!
شهيدنا الفذ: منذ رحيلك -هذا الفجر الرمادي- وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة، ووضعها في سياقها الموازي للصدمة… للحدث الجلل… إننّي مواجه بهذا الاستعصاء، بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية، أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق… ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من غزة…
خبر الاستشهاد كان مزلزلا…قلوب تطفح بأسى مهلك صامت مبيد… بطل يغتال فجرا وتتناقل الفضائيات خبر استشهاده…هكذا كان -موتك- متوحّشا بدائيا ساديّا ضاريا عاتيا فاجعا… هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب…
فلسطين لم تصب بقشعريرة ولا باندهاش. إنّها “ترثي” بنيها.
ماذا تعني كلمات أو مفردات: منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟…لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى. يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه…
الرجولة الفذّة والصرخة الاحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت، وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي ووحشية -اليانكي وحفاة الضمير-…
المشهد العربي
الآن بعد رحيلك-القَدَري -أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة، الآن يبدو المشهد العربي كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الدّم والدموع…
أيّها القائد الرّمز: لقد احتمى اسمك بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل… ونحلم بولادة رمز في حجم شموخك يأتي منقذا ومخلصا…هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى، وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من شاطئ غزة…
وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون…
هي ذي غزة إذن. هي ذي مدينة الأبطال وقد حاصرها الليل.
مدينة غدر بها الزمان. وللغزاوي أن يدفع الثمن دما ودموعا…!
ولنا نحن- الواقفين على شفا الهاوية- أن نسمّي ذلك-بطولة-! كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير…بل علينا أن “نبتهج” بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات.وكافر كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
أيها- الشهيد: الزّمان الغض، المضاء بشموس النصر والتحدي…الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل، ما قبل إدراك الخديعة، بغتة الصدمة وضربة الجلاّد…
الكون الحزين يرثيك. فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين…
رحاب الله
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق، والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
هل كان “الحمام الغزاوي” يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من -قبيلته، بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث، قاتل للحمام والبشر، معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟
نائم هناك على التخوم الأبدية، وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى. لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي، كما في رؤيا سريالية، سأحملك على محفة من الريحان، بعد تطهيرك بمياه الوديان، من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية باتجاه البحر…سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها. أعرفها. تشير دوما إلى القدس. أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-غزة الشامخة- تضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب. وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات. أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي…
قبل هذا الاحتفال الأخير سأطوف بك حول فلسطين العربية التي أحببت، معقل الرجال، حيث يرثيك أهلك و-مريدوك- بدمع حارق يحزّ شغاف القلب…
يسألني العابرون أو أسأل نفسي: هل محاولة استعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟…
لا أعرف شيئا…!
حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية. نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح، ونبدأ الاحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الفلسطينية…
أما أنتم -ياسادتي الكرماء-: إذا رأيتم –الشهيد الفلسطيني-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه، إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم- الشهيد الغزاوي- نائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ، دمعة في لون اللؤلؤ، واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح…
أيّها الشهيد الشامخ: الإمام علي بن أبي طالب لم يمت !…ما زال يجوب الأرض على صهوة فرس أبيض كي يطهّرها من دنس الفاسدين وشذّاذ الآفاق…لقد قُتل وهو يصلي صلاة الفجر، قُتل غيلة. وكان أن بكاه المسلمون بدموع حارقة والدنيا أصابها رجف وسُمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب…
وأنت أيضا، قتلوك ،غيلة، قتلوك فجرا وأنت ترنو ببصرك إلى فلسطين وهي مضرّجة بالمؤامرات، الدسائس، الشرور والدّم المراق…
لكنّك ستظلّ وصمة عار على جباههم…لعنة أبدية تلاحق بسخطها الغزاة ومن ورائهم-غلاة الاستعمار-وأتباعهم…
وها أنّي ٍأراك على فرس من أثير معجون بالنور.تطارد أعداءك ولن تترجّل إلا يوم ينتصب الحقّ شامخا، يخرّ الباطل صريعا… وينبلج الصبح على شعب الجبارين…
كاتب تونسي