اغتيال السينما التسجيلية… جريمة مصرية لفاعل مجهول

قد تكون السينما التسجيلية هي الإبداع الاستثنائي الوحيد الذي يتم تجاهله، رغم تميزه وأهميته القصوى في تسجيل وتوثيق الأحداث والوقائع، فهذا النوع السينمائي هو الاكتشاف الأسبق في عملية توظيف الصورة المرئية المتحركة، للاعتناء بالحدث وحفظه، ليظل شاهداً حياً على مرّ الأزمنة والعصور والمراحل، ويتصل هذا الاختصاص التسجيلي والتوثيقي بالأماكن والشخصيات أيضاً، فهناك أفلام تحفظ سير الزعماء والرؤساء والمخترعين والعلماء والساسة والمبدعين، كل في إطاره المناسب حسب زاوية الرؤية والمحتوى والتناول، كما أن للأماكن والبنايات ما يميزها تاريخياً وأثرياً، ويدفع صُناع الأفلام لتضمينها في إبداعاتهم السينمائية فُتصبح علامات ودلالات وشواهد لا تموت ولا تنمحي.
ولهذا اللون الإبداعي الخاص مبدعيه والمتخصصين فيه، وهم نُدرة من كُتاب السيناريو والمخرجين والمصورين والفنيين، لا يتعلقون بشهرة ولا يبحثون عن أضواء، أسمى غاياتهم تتحقق في ما يصوغونه من فن مُشكل بالصوت والصورة والموسيقى والإضاءة وأدوات التأثير، ولشدة اعتزازهم بما يقدمونه، لا يقتربون في كثير من الأحيان من أجناس السينما الأخرى كالسينما الروائية الطويلة، التي يمثل الخيال فيها المساحة الأوسع للمحتوى الفني ويعود العمل فيها بنتائج مرضية، من حيث الشهرة والمال والتأثير الجماهيري، ولكن أمام غواية الفيلم التسجيلي، لم يأبه مخرجو السينما التسجيلية وصُناعها بتلك الفوارق المميزة لغيرهم من مبدعي السينما الجماهيرية، وهي ذاتها القناعة المُحفزة على الاستمرار في المجال، والتغاضي عن جُملة الإهمال والأعطال والمعوقات المواجهة عادة لحركة السينما التسجيلية في عمومها، والمُتسببة في الغُبن الشديد الذي يعانيه أولئك الموهوبون البعيدون عن الأنظار.
وتتمثل مشكلات السينما التسجيلية في كونها مُصنفاً مُهماً يفتقر لكل المقومات، فالميزانيات المُخصصة للأفلام غالباً ما تكون ضعيفة، وأوجه الدعم الرسمي لا تزيد عن مجرد التخصيص النسبي لبضعة آلاف من الجنيهات، يقوم بصرفها المركز القومي للسينما، باعتباره المؤسسة الإنتاجية المعنية بهذا الأمر، وحين تتم عملية الإنتاج والتصوير تنقطع صلة الفيلم بمنشئه وصُناعه، فلا أمل في ترويجه أو توزيعه أو عرضه، فالمكان الطبيعي له هو الأرشيف، كأن الميلاد مقروناً بالوأد، وما يُستثنى من هذا المصير ليس أكثر من 10٪ من مُجمل الأعمال، وهي نسبة يأتي خروجها للمهرجانات الدولية، بجهود أصحابها الذاتية، وما عدا ذلك يدخل المقبرة ويظل بها حتى يتحلل ويفنى ويصبح في خبر كان.

وتتمثل مشكلات السينما التسجيلية في كونها مُصنفاً مُهماً يفتقر لكل المقومات، فالميزانيات المُخصصة للأفلام غالباً ما تكون ضعيفة، وأوجه الدعم الرسمي لا تزيد عن مجرد التخصيص النسبي لبضعة آلاف من الجنيهات، يقوم بصرفها المركز القومي للسينما.

أما الأفلام ذات الإنتاج الخاص أو غيرها من عوائد الإنتاج الدولي المشترك، فهي الأكثر حظاً في التمتع بحرية النشاط والحركة والسفر، من بلد إلى بلد ومن مهرجان إلى مهرجان، وهي شريحة ليست أساسية في الإنتاج السنوي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، لكنها الأهم بوصفها الطافية على السطح، لحصولها على الجوائز والميداليات وشهادات التقدير، وقد يحالف الحظ أيضاً بعض الأفلام الأخرى المُنتجة لحساب مؤسسات بعينها بشكل محدود، فتشارك في مهرجان متخصص كمهرجان الإسماعيلية، أو تدخل ضمن النشاطات المضافة لمهرجانات السينما الروائية الطويلة، كمهرجان القاهرة، أو مهرجان الإسكندرية، أو مهرجان أسوان، أو مهرجان الجونة، فتُعرض على هامش المسابقات، أو يمثل القليل منها مصر في المسابقات الرسمية، لرفع الحرج عنها فقط وإدراجها بين النوعيات السينمائية المُعتبرة، ذراً للرماد في العيون، وليس من باب إقرار الحق لسينما فريدة في جنسها ومضمونها وتوجهها!
هناك العديد من الأسماء الكبرى في مجال تصنيع الفيلم التسجيلي لا يعرفها الجمهور العادي، لأن أحداً لا يُلقى الضوء عليها، من أبرزها هاشم النحاس وعلي الغزولي وفؤاد التهامي وأحمد راشد وأحمد فؤاد درويش وعطيات الأبنودي ونبيهة لطفي وسميحة الغنيمي وشريف البنداري وسميح منسي وحلمي ياسين وآخرين بالعشرات، من شباب المخرجين المتحمسين الواعدين، لم تذكرهم الحركة النقدية إلا بالإشارة من بعيد وفي مناسبات خاصة جداً، وهو ما يشكل عبئاً نفسياً على الطاقات الإبداعية الجديدة، ويضطرها لهجرة السينما التسجيلية قبل أن تترك بصمتها على جدرانها، أو في دفتر أحوالها المُغلق على آلامها وأوجاعها.
ولو نظرنا للواقع البعيد سنجد أنه لم يكن أحسن حالاً، بدليل أن الكثير من المشتغلين بالسينما الروائية الطويلة كانوا في البدء من مبدعي السينما التسجيلية، وقد تركوها لنفس الأسباب المُحبطة، فداود عبد السيد بدأ مخرجاً تسجيلياً وانتهى به المطاف مخرجاً لأفلام طويلة شديدة التميز والرقي، وهالة خليل وساندرا نشأت وكاملة أبو ذكري، وغيرهم مُبدعون قضوا حياتهم يركضون وراء الحُلم الكبير، وينشدون تحقيق المعادلة الصعبة في الجمع بين الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي، وبالفعل استطاعوا لفترة قصيرة قبل رحيلهم الجمع بينهما، حتى انصرفوا تماماً إلى عالم الفيلم الروائي الطويل، كعلاء كريم الذي قدم عدداً وفيراً من الأفلام التسجيلية في مُقتبل حياته كان من بينها، فيلمان مهمان هما، «القلعة» و«رشيد» ثم ركز بعد ذلك على السينما الجماهيرية التجارية فكانت أفلامه «الجراج ـ 81 جنايات ـ اشتباه – أول مره تحب» في محاولة للخروج من قوقعة الفيلم التسجيلي المأزوم وظروفه القاسية، وقبله كان المخرج شادي عبد السلام صاحب فيلم «المومياء» وأيضاً رضوان الكاشف، الموهبة التي اغتالها اليأس فانتهت مبكراً، وقد تكرر هذا الفعل مع مخرجين لم يستطيعوا القبض على جمر المأساة، ولم يطيقوا صبراً على مأساة سينما باتت تشكو حالها من دون أن يسمعها أحد أو ينظر إليها بعين الاعتبار.

٭ كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    بعض الكلمات ادا سمح لنا المنبر شكرا غير مامرة قلت لنفسي ان المنبر لايضع أيا كان على ظهره المتميز فقط الدي يجلب العين والقلم والكلمة فامصر البلد العربي الدي دخل من الباب الواسع لسينما دخل برصيد ضخم من الصور السينمائية دات جودة عالية ومن حسن حظها كدالك خروج بعض فرسانها الى السينما العالمية ولقد استفادت منهم والموضوع الدي اختاره الكاتب المحترم مرتبط بالتاريخ السينمائي بين قوسين سكرزيادة لمتتبع لتاريخ السينما في العالم يلاحظ أنها قد بدأت بداية تسجيلية أو توثيقية، فصوّرت فعلاً مضارعاً لفاعله، حين صوّر الأخوان لوميير خروج عمال من المصنع تنوعت لافلام التسجيلية ليس فقط في موضوعاتها بل في مناهجها وتوجهاتها وعرضت افلام وصفية وتحليلية كدالك وأفلام أخرى. بلغة السينما فقط
    .

إشترك في قائمتنا البريدية