ان كانت هذه هي تداعيات الانسحاب الامريكي في العراق، فما الذي يمكن توقعه من انسحاب امريكي في أفغانستان، وهو انسحاب ما زالت واشنطن تضرب له موعداً أواخر هذا العام، على أن تبقي قوّة مصغّرة لمكافحة الارهاب لعامين اضافيين؟
ثلاث سنوات على الانسحاب الامريكي في العراق كانت كافية لتدهور تجربة التحول في الاتجاه الديموقراطي، وظهور استقطاب متصلّب «مركزياً» بازاء الكُرد، وصَلِف مذهبياً وبشكل نافر بازاء العرب السنّة، ومندرج اقليمياً في تحالف تقوده ايران، وعاكف على مدّ نظام البعث الفئوي في سوريا بأسباب للبقاء تجعله أكثر فئوية مما هو عليه في الأصل.
شكّل هذا المسار الفئوي، التسلّطي، في بغداد، التوطئة للأحداث الأخيرة التي اتسمت بسهولة انهيار الجيش النظامي الجديد في المناطق ذات الغالبية السنّية. وما كانت الولايات المتحدة تمتنع عن تسليمه للمتمردين في سوريا من سلاح وعتاد خشية عدم وقوعه في أيدي «القاعدة وأخواتها»، صار اليوم غنيمة سائغة في ايدي «داعش» بعد أن ولّى جنود نوري المالكي أدبارهم في رُعب ومهانة.
الانسحاب الامريكي من العراق عزّز نفوذ ايران في هذا البلد بشكل غير مسبوق منذ قرون، والتطوّرات الأخيرة ترشّح هذا النفوذ لأن يصير هيمنياً بشكل واسع أكثر على شيعة العراق بما يطرح السؤال حول مصير الكيانية العراقية ككل، بالتوازي مع طرح السؤال حول مصير الكيانية السورية. ولا داعي لاستعجال المصادقة على زوال الحدود الوطنية الرسمية هنا، فنحن أمام بلدان عاجزة بشكل مضاعف، سواء عن توحيد نفسها أو عن تقسيم نفسها، وما نراه حتى الآن ينمّ عن تمادي هذا العجز المزدوج وليس عن دينامية توليديّة لخرائط جديدة، لا تزال مبكرة.
لكن الوضع على جبهة العراق لا ينفصل بتاتاً عن الوضع على الجبهة «الشرقية» لإيران، أي حيال أفغانستان والباكستان، ذلك انه، ان كانت «داعش» غير المتجذرة اجتماعياً بالشكل الكافي، قادرة على اغتنام وجود مسألة اثنية مذهبية مشتركة، هي مسألة العرب السنة في العراق والشام، فما القول بحركة أكثر تجذّراً في بيئتها، وفي ربطها المعطيات الإثنية بتلك الدينية، كحركة طالبان في أفغانستان ووزيرستان.
فيما مضى، كان يقال ان الاحتلال الامريكي لأفغانستان والعراق حرّر الجمهورية الاسلامية من خصمين لها، الطالبان وصدّام. لكن ماذا عن «الدولة الاسلامية المتحدة» التي يمكن تخيّل اقليمها الشرقي في افغانستان ووزيرستان مع منطقة عمليات لها في بلوشستان الايرانية نفسها، واقليمها الغربي في العراق والشام؟ هنا أيضاً، لا داعي للتسرّع. نحن أمام ظهور واقع جديد، فيه متاعب كثيرة لطهران، وفيه أيضاً آفاق خطيرة لتمدّد نفوذها شرقاً وغرباً، وفي أقاليم كانت انكفأت عنها منذ عهود.
فبشكل أساسي، وبخلفية جغرافية تاريخية مقارنة، نحن أمام ايران لديها ما يكفي من عناصر الدولة الأمة ولا تريد – مع ذلك – أن تتخلّى عن نزعاتها الهيمنية الامبراطورية «الصفوية المحدثة» في الاقليم، في حين أنّه، سواء في شبه القارة الهندية أو في المشرق العربي، لا يزال انهيار المنظومتين الامبراطوريتين «السنّيتين» المغولية والعثمانية لم تعوّض عنه، لا الفكرة الباكستانية، ولا الفكرة القومية العربية، ولا الكيانيات الوطنية. الى حد كبير، الصراع المذهبي السني الشيعي في الشرق الاوسط، ينفعل بهذا التفاوت في الاستقرار الكياني بين ايران وبين ما هو واقع غربها وشرقها وجنوبها.
الانسحاب الامريكي من العراق ثم من أفغانستان سيدخل ايران الاسلامية في طور جديد لها لا يمكن مسبقاً استشراف معالمه، وان كان يمكن مسبقاً التنبه الى عوامل محددة أساسية له، منها ما ذكرناه من تفاوت في الاستقرار الكياني، يجعل الايديولوجيا المهدوية قومية ودينية في آن في ايران، في حين تتعثر الايديولوجيا الدينية للحركات الراديكالية السنية في الجمع بين المعطيين القومي والديني، فهي اما ان ترجع القومي الى الاثني فحسب، واما تصير عابرة للبلدان دون منزع كياني.
لأجل ذلك ينبغي أخذ التحليل الذي يقدّمه سيمون ستيفن في «نيويورك تايمز» بكثير من الجدّية. هو يتوقّع أن يتكرّر السيناريو السوري في العراق، بحيث لا تكون مصلحة نوري المالكي والايرانيين في استعادة المناطق الغربية السنية، وانما في عراق مفكك يكون جيشه اكثر فئوية لكن ايضاً اكثر فعالية واكثر تبعية لايران. لكن سيمون ستيفن الذي يحذّر سنة العراق العرب من ان حرب الاقلية على الاكثرية انتحار يتفلّت من هكذا معادلة عندما يتعلّق الوضع بسوريا، مع ان منسوب الاكثرية المذهبية الاثنية فيها اعلى بكثير من منسوب الاكثرية المذهبية الاثنية في العراق. الا ان ذلك لا يلغي جديّة وخطورة ما يطرحه سيمون ستيفن، ولو ان «الداروينية العسكرية» التي يخلعها على الجيش الأسدي، ويتوقع ان تسري على جيش المالكي من بعد هزيمته الأخيرة، تتوهّم ان الدينامية والحيوية تقوم في جانب، فيما السكونية والعطالة تهيمن على الجانب الآخر.
لكن الغائب الأكبر في هذا التحليل وفي كثير سواه هو الفصل بين مواقيت وتداعيات الانسحاب الامريكي من العراق ومن افغانستان، مع ان احتلال البلدين جاء ضمن «حرب على الارهاب» واحدة، وبتعاون امريكي ايراني في الحالتين، وان كان بتنافس ضمن هذا التعاون، على من يتصدّره في حال العراق وكيف.
ليست هناك من «حتميات داروينية» في الصراع المذهبي. بالتوازي، ليست هناك من «حتميات ديموغرافية» مقفلة. يبقى ان العنصر الأكثر ثباتاً من سواه، هو التفاوت بين الاستمرارية الامبراطورية التي تشكّلها ايران، وبين الانقطاع الامبراطوري «للأقوام السنية» شرقها وغربها، وفي حين نجد «حزب الله» مثلاً كتشخيص لهذه الاستمرارية، وفي بلد غير مجاور لايران، تتقاسم «الداعشية» و»البعثية» و»النقشبندية» و»الليبرالية العربية» مظاهر الانقطاع الامبراطوري في المقلب السنّي، بين من يكابر على هذا الانقطاع، ومن يريد التسليم به وبين من يريد احياء لحظة قبله.

وسام سعادة