الأرجح أنّ حجم نهب الآثار السورية والاتجار بها يتجاوز، اليوم، الأرقام التي تضمنها تقرير مؤسسة «غيردا هنكل» الألمانية، الذي صدر بالتعاون مع «جمعية حماية الآثار السورية» ومقرّها فرنسا؛ ويسجّل حصيلة بين أعوام 2011 و2020، تشير إلى تخريب أو سطو منظّم طال 29 متحفاً (أبرزها في المعرّة وتدمر والرقّة)، و40635 قطعة أثرية، مع التشديد على أنّ 10 متاحف أهرى تعرّضت بدورها لأعمال سرقة ولم تتوفر معطيات ملموسة حولها. والآثاريون السوريون الذين غادروا البلد بسبب معارضتهم للنظام، ويستقرون في جامعات ومؤسسات أبحاث أوروبية مرموقة، يشددون على أنّ الاستقصاء الميداني داخل سوريا لا غنى عنه لحصر الأضرار ومواقع التخريب؛ وأنّ تحليل الصور الفوتوغرافية الجوّية يمكن أن تساعد على نطاق محدود فقط.
وفي شهر أيلول (سبتمبر) 2011، أي بعد ستة أشهر على انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، كان عادل سفر رئيس وزراء النظام يومذاك قد أصدر تعميماً تحت تصنيف «فوري وسرّي»، يبدأ هكذا: «وردتنا المعلومات التالية: ستقوم عصابات دولية محترفة بدخول القطر بعد ان قامت تلك العصابات بإدخال جزء من معدّاتها التكنولوجية وأجهزة اتصالات عبر الأقمار الصناعية إلى القواعد. وهذه العصابات متخصصة بسرقة المخطوطات والآثار والمتاحف والخزائن والبنوك، وسبق أن دخلت هذه الشبكة إلى العراق وليبيا لأنّ هناك إستراتيجية تهدف خلال الفترة القادمة إلى اقتحام البنوك والمراكز البريدية». وينتهي التعميم بطلب «تشديد الإجراءات الأمنية من خلال تركيب بوابات أمنية وأجهزة إنذار وكاميرات مراقبة مخفية، وتشديد الحراسة على المباني وإعادة النظر بعناصر الحراسة غير الكفوءة».
التعميم وُجّه إلى وزراء الاتصالات والتقانة، والثقافة، والمالية، فضلاً عن حاكم مصرف سوريا المركزي؛ وهذه، بالطبع، ليست جهات أمنية أو استخباراتية، وأدوارها في مقارعة «عصابات دولية محترفة» لن تكون إلا بائسة ومضحكة في آن. ما اختفي طيّ التعميم، مع ذلك، كان الحقائق المفزعة عن تكاثر حوادث نهب وتهريب آثار سورية ثمينة، وتلك كانت ممارسة معقدة لا يعقل أن تتمّ دون تسهيل من جهات أمنية عليا، هي السادن الأوّل لتلك التجارة القذرة. تناسى رئيس وزراء النظام، كما ينبغي له أن يفعل، حقيقة أخرى جلية كانت تشير إلى عصابات من طراز آخر تمارس تخريب الآثار السورية، ولا تعمل تحت جنح الظلام، بل في وضح النهار؛ بمباركة النظام، وتهليل أبواقه.
ثمة فارق في نوعية الألم إزاء ما اقترفه ضابط أمن بحقّ ناشط شهيد، قضى تحت التعذيب؛ وما ارتكبه لصّ من أهل الاستبداد والفساد بحقّ آلهة آرامية، أو رقيم سومري، أو مسجد عمري؛ وتلك، بالطبع، فوارق لا تجبّ الجوهر الواحد
لم يتجاسر تعميم سفر على التطرّق إلى دبابات ماهر الأسد، التي اخترقت دوّار السباهي في مدينة حماة، حيث الأعمدة العتيقة، فأخذت تخبط فيه خبط عشواء، وكأنها تسير في أرض يباب؛ ومن نقاط تمركزها هناك قصفت أحياء المدينة، فألحقت الأضرار بالكثير من معالم المدينة الأثرية، بما في ذلك القلعة الآرامية. ولم يذكر كلمة واحدة عن قصف الجامع العمري (الذي أمر ببنائه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عند مروره في حوران)، مرّة تلو أخرى، على رؤوس اللاجئين إليه. حال التغييب ذاتها شملت نهب تلّ الأشعري، أحد سقوف وادي اليرموك الحوراني، الذي تعود مكتشفاته الأقدم إلى العصر الحجري. ناهيك عن التشبيح الآثاري الذي شهدته مواقع مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني. عذا عدا عن النبش العشوائي، تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية، في تل حموقار،منطقة الجزيرة، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد.
ما لا يفاجئ أنّ قطعة أثرية كبيرة سُرقت بعد أيام من صدور تعميم رئاسة مجلس وزراء النظام، وفي مدينة سورية ليست البتة مفتقرة إلى الرموز الكبرى: حماة، دون سواها! القطعة المسروقة كانت تمثالاً ذهبياً نادراً لآلهة آرامية، وقد سُرقت من داخل متحف المدينة، حيث اتضح للمحققين أنه لم تقع عمليات خلع لأبواب المتحف أو كسر للزجاج، وأنّ السارق تجوّل في المكان بحرّية تامة، وتوفّر له كلّ الوقت اللازم لنزع التمثال من قاعدته ونقله خارج المتحف. سلطات الأمن الجنائي اكتفت بتوقيف موظفي المتحف، من دون التوصل إلى نتيجة بالطبع، لأنّ السارق كان في حماية سادته السارقين الكبار.
ولقد سبق لكبار اللصوص هؤلاء أن عاثوا فساداً في الأحياء العتيقة من العاصمة دمشق، ولم يتورعوا عن تخريب أسواقها العريقة، وطمس معالم كبرى من تاريخها الأيوبي والمملوكي؛ بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، دون أي اكتراث بالعواقب العديدة، البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية والاقتصادية والثقافية، التي ستخلّفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة. وهكذا، لم يعد يشبعهم أنهم نهبوا وينهبون ـ مثل ضباع شرهة جشعة، لا تشبع ـ في قطاع الاتصالات والهاتف الجوّال والأسواق الحرّة وصناعة الإسمنت ودفن النفايات المشعّة، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك؛ فتوجّب أن يخرّبوا كي يشتغلوا بإعمار ما خرّبوا، مع فارق أنهم يهدمون ما لا يجوز تهديمه، ويمسّون ما ينقلب أيّ مساس به إلى جريمة كبرى بحقّ الإنسان والتاريخ في آن معاً.
وثمة، لا ريب، فارق في نوعية الألم إزاء ما اقترفه ضابط أمن النظام بحقّ ناشط شهيد، قضى تحت التعذيب؛ وما ارتكبه لصّ من أهل الاستبداد والفساد بحقّ آلهة آرامية، أو رقيم سومري، أو مسجد عمري؛ وتلك، بالطبع، فوارق لا تجبّ الجوهر الواحد.
قال القاضي أبو يعلي عبدالباقي بن أبي حصن المعري عندما مرّ بقرية قرب معرة النعمان فرأى أُناسا ينقضون بنيانها ليعمروا به موضعا آخر، فراعه ذلك. وأنشأ هذه الأبيات التي تكشف سر تعلق النفوس بأطم وأطلال الآباء والأجداد:
مررتُ برسم في سِياث فراعني … به زجَلُ الأحجارِ تحتَ المعـاولِ
تناولها عَبْلُ الذراع كأنـما … رمى الدهرُ فيما بينهم حربَ وائلِ
أتُتْلِفُها؟ شُلّتْ يمينُك، خَلّهـــا … لِمُعْتَبرٍ أو زائرٍ أو مُسَائل
منازل قـوم حدثتنا حديثهم … و لم أر أحلى من حديث المنازل