إنّ الباحث حين يطرح فكرة ويسعى إلى تثبيتها يأمل من الآخرين وتحديداً ذوي الاختصاص الذين يشاركونه الميدان أن يتجاوبوا معها ويهتموا بها نقاشاً ومعالجة. ولكنني على طول العامين الماضيين اللذين انبريت فيهما لملاحقة علم السرد ما بعد الكلاسيكي بوجه عام وعلم السرد غير الطبيعي بوجه خاص، لم ألحظ أية ردود أفعال لا إيجابية ولا سلبية إزاء متابعاتي لمستجدات هذين العلمين ومناقشاتي لمفاهيمهما واختياراتي لتمثيلات على طروحاتهما من القصص والروايات العربية.
ومن الحسن أن أجد في الآونة الأخيرة ردود أفعال يُرجى منها أن تتابع مستجدات الساحة الأدبية والنقدية بكل ما فيها من رؤى ونظريات. لكن الذي استوقفني وأثار ريبتي هو ما وجدته من التباسات، ألمسها تارة في تساؤلات حول علوم السرد ما بعد الكلاسيكية وتارة أخرى أجدها في تقعيدات جزافية إزاء علم ما زال مستجداً في حاضنته الغربية وأعني به علم السرد غير الطبيعي.
وبؤرة الالتباس تكمن في أن من يتعامل مع هذا العلم ينظر إليه باستصغار أو دونية كمفهوم سائب تم ابتكاره بعمومية وبلا حاضن فلسفي وبخلو إجرائي من أي تجريب أو اختبار. وهذا وهمٌ كبير لا بد من توضيح أبعاده كي تزال غشاوة اللبس وسجف الإبهام.
فعلم السرد غير الطبيعي فرع انبثق في خضم منظومة معرفية أوسع هي علم السرد ما بعد الكلاسيكي. وتم اجتراح هذه المنظومة بأكملها في فضاء حاضنة علمية كبيرة أسس قواعدها منظرون معنيون بما أسفرت عنه اختبارات الذكاء الاصطناعي والسبرانية المعرفية من مفاصل ذات كشوفات مهمة حول قدرات العقل البشري الذهنية، ومنها القدرة على الإبداع وعلاقة هذا العقل بالإبداع السردي.
وحري بمن يريد معرفة العلم الفرعي (السرد غير الطبيعي) أن يعرف أولاً العلم الرئيس أو الأصل أي (السرد ما بعد الكلاسيكي)، فذلك هو الذي يضع الناقد في صورة مستجدات الاثنين الأصل والفرع معاً. أما تناول أحدهما وغضّ الطرف عن الآخر أو إعطاء الأهمية لواحد على حساب الآخرـ فلن يوصل إلى نتيجة، بل بالعكس سيؤدي إلى مزيد من اللبس والتخبط. وهو للأسف ما لمسته في ردود الأفعال ــ على قلتها ــ حول هذين العلمين.
فصار الفرع أي السرد غير الطبيعي موضع الاهتمام أكثر من الأصل وغدت جدته ومستجداته محل نفور واستهجان لا بالدراسة المبنية على خلفية معرفية تماشي هذه المستجدات، وإنما بالاستناد إلى مسلمة كثر اجترارها وهي أن كل جديد يعد طارئاً ومخطوءا، وأحيانا يُرفض بمجرد مقالة أو مقالتين فقط.
ولا خلاف في أنّ صراع القديم الذي يقف سداً منيعاً في وجه الجديد معروف في نقدنا العربي، بل هو ظاهرة واضحة على طول مراحله التاريخية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الضرورة والاحتمال تتطلبان وقفة شجاعة وجادة تضع النقاط على الحروف؛ فلم يعد ممكناً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ثم أن كل جديد لا بد له أن يصبح قديماً بعد حين، ومن ثم لا بد من التجديد بدل التقوقع على القديم الذي هو سبب التراجع والركود.
وعلم السرد غير الطبيعي مثل أي علم مستجد، ابتدعه فريق أكاديمي أو مجموعة بحثية ثم طرح أحدهم رؤية نظرية، فأحسن هنا وأخفق هناك وربما فاته كذا في هذا الموضع، وغفل عن كيت في موضع آخر. وهذا ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا وننبري لمناقشته بأناة وعلمية بعيدة عن النرفزة والمزاجية، ونتصدى له كعمل بحثي يواجه منظومة علمية تنتمي إلى مراكز بحث ودرس مرموقة هي الآن بصدد وضع لبنات هذا العلم ونظرياته. وبعض منها جماعي يأخذ شكل دراسات محررة ضمن سلاسل كتب دورية، وبعضها الآخر فردي وله مظانه ومصادره وإصداراته. ولا يخفى على المتتبع لتلك الأبحاث والإصدارات ما يجده فيها من جوانب كثيرة تستدعي الجدل وتقتضي التأمل وإعادة النظر.
ومن يتابع ما نشرته خلال السنوات السابقة من مقالات وقرأ الجزء الأول من كتابي الصادر مؤخرا، فسيجد أني مع كل مفهوم أرصده وأي مُنظِّر أقف عنده أضع مؤشراتي الخاصة كأنْ أحدد تلاقيات أو اقترح تصورات أو استقل بتعريب مسميات أو أعالج تمثيلات أو استحسن اتجاهات أو أضيف إليها. ومن كل ذلك أسعى لأن أضع القارئ، ومن منطلق الأمانة والموضوعية، في صورة هذا الجديد العلمي والنظري، وفي الآن نفسه تحفيز وعيه بما أقدّمه من تصورات واجتراحات ومنها اجتراحي السرد غير الواقعي كمقابل له مسوغاته التي تقترب من كشوفات قدّمها منظرو السرد غير الطبيعي.
وبالطبع أنا لا أقصد بالقارئ من اكتفى بما لديه من مفاهيم وتجارب وظنّ أنه اغترف من البحر، فصار هو البحر الذي ينبغي أن يغترف منه الغارفون، وإنما أقصد القارئ الحريص والمتخصص الذي يهمه الاطلاع على ما يجري في ساحة النقد العالمي.
ولا خلاف في أنّ بحر العلم لا نهاية له، وكلما غرفنا منه ازدادنا حاجة إلى الاغتراف أكثر. وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة وعلم السرد غير الطبيعي خاصة ما زال بحيرة، وهو سائر باتجاه تقعيد نفسه ليكون بحراً. وهو ما يعطينا نحن النقاد العرب فرصة كبيرة لأن تتظافر جهودنا مع جهود النقاد في العالم وعلى اختلاف جغرافياتهم كي نساهم معهم في ما كان عزيزاً علينا في القرن العشرين الإسهام فيه لأسباب لسنا بصدد تعدادها.
ومن أشكال تلك المساهمة أقلمة سردنا القديم كخطوة أولى تتبعها خطوة أقلمة سردنا الحديث، وليس في ذلك اتباع أو تقليد، بل هو مساهمة مع منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي وعلم السرد غير الطبيعي في وضع نظرية متكاملة للسرد العربي. وقد عرضتُ كل تصوراتي وتطلعاتي عبر عدة منافذ، وآخرها منصة مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة قطر حيث قدمتُ ورقة مشروعي عن «السرد غير الواقعي في المرويات التراثية».
وليس المهم أن تلاقي الورقة ردود أفعال مختلفة مشجعة أو مثبطة، بل المهم أن يكون هناك إجماع على أهمية وجود نظرية عربية تؤقلم نقدنا وتجعل له مكانة مهمة في خارطة النقد الأدبي العالمي. وما من سبيل إلى ذلك سوى باجتثاث ما ترسب في نقدنا من مسلمات جارت على الحركة النقدية دهراً طويلاً وسببت حيفاً كبيراً، فكانت هي حجر العثرة الذي وقف ويقف في طريق أي تطوير.
وكان من مؤديات انهماكي بمتابعة ما تطرحه مخابر علم السرد غير الطبيعي من مفاهيم المحاكاة والتخييل والحبكة وغيرها أن تشكلتْ لديّ رؤية نقدية وبمعالجات أعلنتُ عن بعضها وفصلّتُ فيها أكثر وبخاصة في كتابي «السرد غير الواقعي».
ومن الضروري ألا نخشى الإعلان عما هو جديد؛ فنحن دعاة التغيير والتجديد ونلهج صباح مساء ومنذ عقود بضرورة رسم مستقبل مشرق تضيئه شموس. أم هو مجرد تباهٍ فضفاض لأضغاث أحلام، وفي دواخلنا نقرُّ بالتقليد والسير على المنوال، ونخاف من كل جديد حتى صرنا من أكبر العتاة في تثبيط الهمم وتسويف الآمال فلا مستقبل نؤمن به ولا شمس نريد لها أن تشرق على كهوفنا التي عشعشت فيها الخفافيش؟
صحيح أن كلمة سردية وسرديات بدت موضة عند كثير من المحللين السياسيين حتى أن الباحثين الإحيائيين والفيزيائيين صاروا يستعملونها لكن جذر المصطلح يبقى واحداً هو (سرد) ولا فرق أن قلنا سردية أو قلنا سرديات.
وأما بخصوص التساؤلات التي طُرحت مؤخراً حول واقعية السرد غير الطبيعي ومسائل المحاكاة واللامحاكاة، فإن إجاباتها متوفرة وباستفاضة في مقالات منشورة في أكثر من مكان حول علم السرد ما بعد الكلاسيكي وعلم السرد غير الطبيعي.
*كاتبة من العراق