معركة ضم أجزاء من الضفة الغربية تدور في الكواليس، ولا أحد يستطيع أن يستكشف مساراتها، لأن الأوراق اختلطت، بحيث لم نعد ندري مَنْ مع مَنْ، ومن ضد من، وإلى أين، ومتى وكيف.
ما نعرفه هو أن الجمهور الفلسطيني خارج المعادلة، حتى السلطة الفلسطينية تبدو وكأنها طرف دخيل، أو خجول في أفضل الحالات.
المعركة تدور في ثلاثة محاور:
إنها أولاً معركة إسرائيلية داخلية، غلاة المستوطنين يرفضون الضم، لأنهم يريدون إزالة نقطة ما يسمى بالدولة الفلسطينية من صفقة القرن الترامبية.
الإدارة الأمريكية تتخبط بين اتجاهين، اتجاه يقوده صهر ترامب جاريد كوشنير، ويدعو إلى التريث كي لا يقود الضم إلى توتر سياسي بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، مما سيؤثر على احتمالات فوز ترامب في انتخابات تشرين الثاني- نوفمبر الرئاسية، وهذا ما عبر عنه السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة في مقاله في «يديعوت أحرونوت» (12حزيران- يونيو الجاري). واتجاه يقوده السفير الإسرائيلي (عفواً الأمريكي) في إسرائيل دافيد فريدمان، وهو أحد غلاة المستوطنين ويضغط من أجل أن يتم الضم في موعده، أي في الأول من تموز- يوليو المقبل.
الحكومة الإسرائيلية تعيش انقساماً بين مكوناتها، غانتس متردد، ونتنياهو مستعجل، لكنه ونظراً لتعقيدات الموقف الأمريكي مستعد للضم بجرعات وعلى مراحل. أما المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فتدعو إلى التريث، لأن الضم قد يقود إلى اضطرابات فلسطينية في المناطق المحتلة، كما سيجبر الجيش على نشر قواته على حدود شاسعة ومتعرجة.
عربياً، هناك الموقف الأردني الرافض للضم، وهو نابع من التأثير التفجيري للضم على الكيان الأردني.
وبالطبع، فالسلطة الفلسطينية أعلنت رفضها للضم وهددت بإجراءات، أهمها وقف التنسيق الأمني وإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل، وهي إجراءات يشكك العديد من المراقبين في قدرتها على تنفيذها.
السياسة الفلسطينية لها اليوم عنوان واحد، هو رفض الضم. وغداً إذا تأجل الضم سيجرى تصوير التأجيل باعتباره انتصاراً، ويتم إدراجه في قائمة الانتصارات الوهمية التي بدأت في الخامس من حزيران- يونيو 1967.
التباينات الداخلية في الموقفين الأمريكي والإسرائيلي هي مجرد تباينات تكتيكية حول الظرف والتوقيت والتكتيك، لكنها تتجاهل السؤال حول الاحتلال، فسواء تم الضم أو تأجّل، وسواء نجح ترامب في تطبيق صفقته أو لم ينجح، فإن الاحتلال باقٍ، ولا يوجد في الأفق أي كلام أو نيّة لإنهائه.
هذا لا يعني أن الضم إذا حصل لا مفاعيل له، فالضم سيكون كارثة إضافية من داخل مركّب كارثي هو الاحتلال. وهو كارثة بجميع المقاييس: مصادرة أراض جديدة، ومصير الفلسطينيين المقيمين قرب المستعمرات الاسرائيلية وفي الغور، وتطهير عرقي…
الاحتلال هو الفيل في الغرفة، كما يقول المثل، وهو أصل البلاء الذي بدأ عام 1948 ووصل إلى ذروته عام 1967.
والحق يُقال إن المفاوضين الفلسطينيين الذين سقطوا في فخ أوسلو سبق لهم وأن ابتلعوا الضمّ، عندما أعلنوا موافقتهم الضمنية على بدعة تبادل الأراضي، بحيث تضم إسرائيل المجمعات الاستيطانية الكبيرة، مقابل أن تعطي الفلسطينيين أراضي في إسرائيل، أي في فلسطين. يضمون أراضي فلسطينية ويعطون الفلسطينيين أراضي فلسطينية! يا للذكاء والتكتيك!
الاحتلال هو السؤال الغائب عن هذا النقاش العقيم حول الضم. الضفة الغربية بما فيها القدس، وغزة، هي مناطق احتلت عام 1967 في عرف القانون الدولي، وبالتالي فإن جميع الإجراءات التي تتعلق بالاستيطان السكاني وبناء المستعمرات ومصادرة الأراضي والطرق الالتفافية هي إجراءات باطلة، ويجب إزالتها.
هذا هو صلب الموضوع. كل كلام آخر هو للتعمية وقبول ضمني بالاحتلال.
من الواضح أن هناك ما يشبه الإجماع السياسي الإسرائيلي على اعتبار الاحتلال جزءاً من الحياة، فعمر الاحتلال بات يساوي ثلثي عمر الدولة العبرية، التي نشأت أساساً كاحتلال. والمحتل لا يبالي، لأنه حين ينظر حوله فلن يرى سوى مشرق عربي مفكك ومنهك وفاقد للاستقلال والإرادة. شعوب منكوبة بحكامها، وبلاد مستباحة لكل الطامحين الإقليميين والدوليين. إضافة إلى انبطاح أنظمة النفط توخياً لرضى إسرائيل وبحثاً عن حمايتها.
كما أن المحتل يجد إلى جانبه حليفاً أمريكياً أكثر صهيونية منه، فسيد البيت الأبيض يتصرف مع «حلفائه» العرب باحتقار ولا مبالاة لا سابق لهما، وهو يرى في إسرائيل حليفاً استراتيجياً ونافذة على الرؤية القيامية المجنونة التي يتبناها غلاة الإنجيليين من أنصاره. إسرائيل حليف في الدنيا والآخرة، لذا فإن احتلالها ليس احتلالاً، بل هو «مشيئة ربانية» قررها «يهوه» لشعبه المختار، مانحاً إياه أرض كنعان.
وإذا نظر المحتل إلى فلسطين فإنه يرى سلطتين وهميتين تتصارعان على اللاشيء، وتقومان بتفتيت شعب طحنته الحروب والخيبات، ويجد نفسه وحيداً ويتيماً بين الأمم.
مشروع الضم يعلن أن النكبة مستمرة، سواء حصل اليوم أو حصل غداً.
إنها النكبة، ولعل تجليها الفكري يكمن في نقاش عقيم يدور في الوسط الفلسطيني والعربي حول الخيار بين مشروع الدولتين ومشروع الدولة الواحدة.
هذا الخيار ليس مطروحاً على الفلسطينيين، إنه خيار داخلي إسرائيلي ونقاش بين إسرائيل والولايات المتحدة. حتى عرب الاستسلام والخزي لا صوت لهم.
إسرائيل صارت دولة أبارتهايد، سواء تم الضم القانوني أم لم يتم، ويجب أن يبدأ النقاش الفلسطيني من هذه النقطة، ليعيد طرح مسألة مقاومة الاحتلال كخيار وحيد.
النكبة الفلسطينية صارت أحد أسماء نكبات المشرق العربي، التي تعيد المنطقة إلى مناخات التقاسم الدولي التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى.
وسط هذه العتمة، لا ضوء سوى صرخة المقاومة التي تستطيع وحدها أن تعيد رسم وجوهنا في مرايا تاريخنا المتشظية.
الموقف العربي متخاذل, والموقف الغربي متواطئ!
الشعب الفلسطيني سيثور لوحده, وسيقول كما قال الشعب السوري: يا الله, ما لنا غيرك يا الله
لماذا نسبة ضئيلة من الشعب العربي تعلم أنه ليس فقط الشعب الفلسطيني (الذي هو على بوز المدفع) من يدفع ثمن خلق إسرائيل في فلسطين، في قلب العالم العربي، وإنما جميع الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج؟ تدفع الثمن من أمنها وإستقرارها وثرواتها التي ينهبها حكام فاسدون عملاء تحميهم إسرائيل وأعداء العرب من البريطانيين والفرنسيين والأمريكان، ومن هو المسؤول عن هذا الجهل عمى يمثله هذا العدو الإسرائيلي من خطر على العرب؟
شُكِرتَ أيّها الضّمير الحي. نكبتنا تعمّقتْ و طالت القلوبَ و الهممَ ! و لكن كما يقول ابن “توزر” “إشتدّي أزمة تنفرجي— قد آذن ليلك بالبلج ” فالفجر آتٍ و إن طال الظّلام.
شكراً أخي الياس خوري. لنفرض جدلاً أن السلطة الفلسطينية أعلنت خيار المقاومة, مالذي سيحصل؟ هل ستذهب إلى عمان لتعمل من هناك, بالتأكيد لا يمكنها. هل ستنضم إلى محور المقاومة والممانعة! نعلم أن هذا دجل وأن دمشق لن تكون سهلا كما نعلم!. إلى تونس إلى الجزائر ألى لبنان, قطر, الرياض, إلى أين؟
صياغة خيار المقاومة (وليس الخيار بحد ذاته) هو المشكلة منذ أن طردت المنظمة إلى لبنان ومن ثم إلى تونس بجهود النظام السوري ودخول إسرائيل إلى لبنان. هكذا نعود إلى الأسباب التي فادت إلى خديعة أوسلو.