جاء في مقال نادية هناوي «في ماهية الجنس الأدبي العابر للأجناس» (القدس العربي 2 مارس/آذار 2020) استئناسا بجيل دولوز، أنّ الاختلاف بين الأجناس لا يتعدّى نوعين: أحدهما اختلاف كامل حيث كلّ جنس كيان قائم بذاته، والآخر اختلاف فرديّ محدود جدّ «بين اللامنقسمات التي لا تمتلك تضادّا». ودولوز يميّز بين الجنس والنوع، فالجنس يتعيّن من الخارج، فيما النوع يتعيّن من الداخل. وتشفع هناوي مقالها بأسئلة من قبيل: هل يكون الفارق شكليّا في تنميط الأنواع وصياغة العلاقات، والمدار فيه يبقى هو النسق والإطار[الحيّز] والأغراض؟ أم هل أنّ الفارق موضوعيّ محوره مأساويّ أو ملهاويّ أو تخريفيّ؟ وما طبيعة المسافة التي تفصل بين الجنس والنوع؟ وكيف تقاس درجة التوتّر بينهما؟ أيصحّ القول إنّ الجنس ختلاف كيفيّ، والنوع اختلاف كميّ؟
على أنّي أحبّ أن أشير إلى أنّنا نستطيع اليوم كلّما تعلّق الأمر بنظريّة الأجناس أو الأنواع الأدبيّة، أن نتوخّى ترتيبا نوعيّا، فنصنّفها إلى خطابين كبيرين: استعاريّ وكنائيّ، لكن بدون أن نفصل بينهما فصلا قاطعا؛ لما نقف عليه من ترابطهما حينا، وتجاورهما حينا في أكثر من نصّ، بل إنّ من الكتّاب والشعراء من يزاوج بينها في كلّ ما يكتب، حتى لا يبين هذا من ذاك. وهذا يشمل الرواية والقصّة مثلما يشمل الشعر.
وفي هذه الأنواع الأدبيّة يمكن أن نرى كيف يستجيب الجنس أو النوع الأدبي لمتغيّرات شكليّة شتّى، تتركّز أساسا في البنية واللغة. وإذا كانت هذه المتغيّرات ممّا لا يخفى على القارئ الفطن، فإنّ استخراج القاعدة التي يقوم عليها الجنس الأدبي من منظور استعاريّ أو كنائيّ، ليس بالأمر السّهل، بل لعلنا نثير بصنيعنا هذا من المشكلات أكثر مما نجتبي من الحلول. فقد استتبّت مقولة الأجناس والأنواع، وأصبحت عند كثيرين من المسلّمات والسّمعيّات المقرّرة التي يأخذ بها الباحث على مقتضى جملة من القواعد، بدون أن يميّز بين النوع النظريّ المستخلص من نظريّات الأدب، أي الذي يدرك من خارج، والنوع التاريخيّ الذي هو ثمرة نظر في النصّ أي ما يدرك من الداخل. والنوع النّظريّ يرجعنا أنماط»مثاليّة» معيّنة يكمن فيها جوهر النصّ وقوّته. ولا نماري في أنّها أقيمت في جانب منها على شروح وقراءات تطبيقيّة، مثلما أقيمت على ما يجمع بين النصوص من تقاليد.
لمقولة النوع إذن وجهان:استقرائيّ أساسه البرهنة على العامّ من خلال الخاصّ، أو على الكلّيّ من خلال الجزئيّ، واستنباطيّ يقوم على استنتاج أحكام وقضايا خاصّة بالنوع (الجنس) وما يقتضيه ذلك من إسقاط ما لا ينضوي إلى العامّ وطرحه. ولعلّ هذا ما يجعل من نظريّة الجنس الأدبي نظريّة معياريّة، على الرغم من أنّها نظريّة في الآداب عامّة، وفي المتوخّى من أساليبها، إلا أنّها تحوّلت عند جلّ الدارسين والباحثين إلى مجموعة قواعد ذات وظيفة تقويميّة كان أساسها قياسيّا، كما تدلّ على ذلك سائر النصوص التي اعتمدوها في حدّ مكوّنات الجنس، أو ضبط النوع شكلا وصورة. ومن هنا اتُّخِذت القاعدة محكّ اختبار وانتقاد، وقياسا وعيارا ونموذجا، وانفكّت النّظريّة عن النصّ، لتتحوّل إلى قواعد تنظيميّة تتحكّم في أشكال فنّية هي أحيانا سابقة الوجود عليها، مستقلّة عنها.
ولم يكن هذا المنحى بالمستغرب، فالنقد فنّيّ لا شكّ، ولكنّه مثل الدرس الجامعي تعليميّ أيضا يفترض فيه أن يشبع حاجة القارئ أو المتلقّي إلى نظريّة تعلّمه أصول الجنس الأدبي، والقواعد التي يستنير بها في تعاطي النصوص وفهمها، خاصّة بعد أن استمكنت الآداب والفنون الحديثة، وعصف بكثير أو قليل من مراسم الأدب ومواثيق تلقّيه. وإنّه لمن السّائغ في الدّراسات الأدبيّة قديمها وحديثها، أن ينقّب القارئ عن النوع النظريّ أو المفهوم النوعيّ، عسى أن يدنيه من خاصّة العمل المقروء، ويوقفه على مدى قربه من نصوص أخرى تنضوي إلى الجنس ذاته أو بعده عنها. إنّما ينشأ الإشكال كلّما اتّخذ القارئ هذا النّوع نموذجا أو قاعدة ـ معيارا للحكم والتّمييز بين النصوص، وأوجب على الشاعر أو الكاتب أن يحتذيها. وفي هذا ضيم وإجحاف بالنّصّ؛ لأنّ القارئ إنّما كان ينشد من المقايسة، ميزة بعينها، وهو يطابق بين النصّ والنوع أو الجنس؛ وقلّما عكس الأمر وبدأ بالنصّ عسى أن يكتشف ميزته الخاصّة التي يمكن أن تختلف عن ميزة النوع. على أنّ هذا الضرب من المقايسة أو المطابقة كثيرا ما يصلح في إظهار الأنماط النوعيّة وسماتها الخاصّة. ولعلّ خير مثال لما نحن فيه، نظريّة العرب في الشعر وهي نظريّة في نقده؛ وكان النقد الذي قام عليها ذا منحى تعليميّ لا يخفى. ولكنّه كان إلى جانب ذلك نقدا فنّيا أساسه التمييز بين صناعة الشعر وصناعة النثر، وما ينضوي إلى هذه من الأنواع أو الأجناس وما ينضوي إلى تلك.
النوع إنّما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الكاتب أو الشاعر وقد لا يلتزمها؛ وثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها.
وهذا من شأنه أن يسوق إلى القول إنّ استعمال مقول ما باعتباره قاعدة يجري عليها النوع، يفترض ثباتا ما، حتّى يحتفظ بصلاحيته ويحافظ على وظيفته التقويميّة. وممّا يسوّغ هذا الاستنتاج أنّ الشاهد النصّي (شعرا أو قصّة أو رواية) قياسيّ في الأعمّ الأغلب، يوائم الجنس، ويتوافق والقاعدة المعياريّة. ولا غرابة في ذلك، فالقاعدة مشتقة أساسا من هذا الشاهد. وهي من هذا الجانب، مقول إحاليّ، وعنصر لا غنى عنه في صياغة نظام من التمثّلات المعياريّة التقويميّة.
وفي حيّز هذا النظام، لا يحدّ النوع وحسب، وإنّما طرائق تأتّيه أيضا، على أساس اتّفاق ضمنيّ على ما ينبغي قوله في النوع وما لا ينبغي قوله.
وغنيّ عن الذكر أنّ النصوص المنضوية إلى ذات النوع لا تتوخّى أسلوبا دون سواه، ولا هي تتّبع نموذجا جماليّا واحدا. فإذا كانت الأنواع ثابتة فان أشكالها متغيّرة لا شكّ. وطالما اعتبرنا أنّ مدار الخطاب إنّما هو على ذات وعلى خبرتها باللغة وبالعالم، أمكن أن نتوقّع تبدّلات الشكل والأسلوب وأن نتقبّل حتّى أكثرها غرابة وشذوذا، بحيث نرى القيمة الجماليّة في المتغيّر من الأشكال، أكثر ممّا نراها في نموذج يحتذى أو قاعدة معياريّة يمتثل بها. وهذا لا يعني أنّ القاعدة شأن نقديّ ليس إلاّ، أو أنّ القصيدة طليقة من أيّ قاعدة. ولعلّ في هذه الافتراضات التي نفترضها على العلاقة بين النوع والنصّ ما يبيّن أنّها علاقة شدّ وجذب، وأنّ النصّ ليس بالضرورة حصيلة قاعدة الجنس. فثمّة درجات من المقبوليّة تختلف باختلاف الموقف الذي يتّخذه المبدع من القاعدة. والنوع إنّما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الكاتب أو الشاعر وقد لا يلتزمها؛ وثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها. وقد ذكرنا في غير مقال أنّ وجود القاعدة لا يترتّب عنه ضرورة حدوث مطابق لها. والنصّ المطابق للقاعدة إنّما هو جائز أو محتمل.
وإذا كان بإمكان المنشئ أن يتّبع القاعدة أو ألاّ يتّبعها، فإنّ ما يعدّ»خطأ» أو»مخالفة» أو»تقصيرا»، إنْ هو إلاّ حرف قاعدة أو حيْد عنها. وإذن ليس ثمّة خطأ أو مخالفة أو تقصير من دون قاعدة. وكذا العكس بالعكس.
أهمّ ما نخلص إليه من هذه الافتراضات أنّه من الصّعوبة بمكان أن نرى في معياريّة الأجناس أيّ شكل من أشكال السّببيّة. والركون إلى القاعدة في المدوّنة الأجناسيّة إنّما كانت الغاية من، على ما نرجّح، تسويغ نصّ أو الاعتراض عليه أكثر ممّا هو بحث عن تفسير سببيّ. ولعلّ في هذا ما يفسّر التّمييز الصارم بين الأنواع؛ حفاظا منهم على»نقاء الجنس» باعتباره ثابتا ينبغي أن لا يمتزج بغيره. على حينّ يسهم الكتّاب والشعراء والمبدعون عامّة في هذا التقليد إمّا بتحقيق الاحتمالات الكامنة فيه، أي تلك التي لم يدركها أسلافهم؛ كأنْ يعيدوا تجميع التقاليد الأشدّ عراقة، ويفتتحوا فيها وبها سُبلا غير مطروقة، أو حتّى بالانقطاع عن التقليد نفسه. ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر في النوع أو الجنس، من حيث هو نوع تاريخيّ متحوّل له خصائصه وقضاياه.
وهذا لا يتسنى إلاّ بوصف الخطاب بحثا فيه عن الصيغة التي تنتظم النوع، ووقوفا على القانون الذي يشتمله. وأساس ذلك إنّما هو العنصر السائد المتسلّط على النصّ، أي ذاك الذي يحكم بقية العناصر ويتصرّف فيها؛ ونعني به ها هنا قانون المشابهة وقانون المجاورة. وفي ضوئه يمكن أن نصنّف الأنواع أو الأجناس إلى استعاريّ وكنائيّ.
على أنّنا نشير إلى أنّ في الآداب عامّة أخلاطا أشدّ تعقيدا من أن ندرجها في رفّ بعينه؛ فثمّة نصوص غير قليلة يصعب تصنيفها حسب النظام المقترح تصنيفا دقيقا. ومثل هذه الاستثناءات تؤكّد أنّ الأنواع ليست أجناسا أو أنماطا ثابتة، بما فيها «الافتراضيّة» أو العابرة للجنس.
٭ كاتب من تونس