■ ينتمي الشاعر الراحل مصطفى عبد الله إلى جيل الستينيات من القرن العشـــرين، حيث واكب التحولات الثقـــافية والاجتماعية في الساحة العــــراقــية، بعد الهجمة الشباطـــية الشرسة عام 1963، إثر الهزيمة المرة لقوى اليسار العراقي، وكل القوى الوطنــية في العـــراق، كان مصطفى من ذلك الجـــيل المتمرد والمنفتح على تيارات الثقافة الوافدة للعراق، بعد تلك الهجمة الشرسة. لكنه لم ينشر نصوصه الشعرية إلا في السبعينيات من القرن العشرين.
وفي منتصف ستينيات القرن الماضي – لم يكن هناك تيار ثقافي قار، بل مجموعة كبيرة من التيارات الثقافية، بعضها يحافظ على ثقافة ماركسية مشذبة، بسبب الانتكاسة التي تعرض لها الحزب الشيوعي، وبعضها يميل إلى وجهة النظر الوجودية، وهناك أفكار كامو عن العبث وتأثيرها على عدد كبير من مثقفي المدينة، أما الشاعر مصطفى فقد بدا محافظا يميل إلى وجهات نظر دينية، لكنه سرعان ما تأثر بالتيارات الثقافية بدون تطرف، متخذا من السرد القصصي وسيلة للتعبير عن أفكاره، وهي في طور التكوين، وكان أول كاتب بيننا ينشر نتاجاته في الصحف المحلية البصرية، بعد إسماعيل فهد إسماعيل الذي كان قد أصدر مجموعته القصصية الأولى «بقعة داكنة»، إذ نشر عددا من القصص القصيرة في الصحف البصرية (بالخصوص في صحيفة «البصرة» التي أصدرتها كلية التجارة المسائية الأهلية في البصرة منتصف الستينيات، وكان يشرف على صفحتها الثقافية الشاعر يوسف السالم) وكانت قصص الراحل تتميز بالجدة والطرافة، وتبشر بقاص واعد، لكنه هجر كتابة القصة وجرّب كتابة السيناريو والمسرحية الشعرية قبل أن يستقر على كتابة الشعر.
في فترة بداية السبعينيات نشر مصطفى قصائده في مجلة «الأقلام» و»الثقافة الجديدة» وفي العديد من الصحف العراقية. واتضحت في معظم قصائده السبعينية، تلك العلاقة الوثيقة بين الفني والأيديولوجي متضافرين. كما نجد اهتماماته بحياة الناس اليومية، وربما نستطيع القول إن الراحل هو من أوائل الشعراء العراقيين ممن دشن كتابة القصيدة اليومية بقصيدته الشهيرة «نزهة»، في رسم مشاهد مقربة وحيوية من حياة الناس الفقراء:
(لماذا ينزل أولاد الحيانية قبل وقوف الباص؟
ويقتسمون مع الحر، سريعا، أبواب البارات
وأسواق الخضرة والساحات
وحين تنام الشمس على الطرقات
ينتصبون رفوفا للبارد والحلويات؟)
لا أدري.. كيف ستحلو النزهة،
بين الأشجار وأولاد الحيانية؟
وتمثل هذه القصيدة توظيفا عميقا للشأن اليومي، حين يمتزج المشهد اليومي (لأولاد الحيانية) وهم يتجنبون دفع أجرة الباص الذي يستقلونه من مدينتهم إلى المدينة الكبيرة، وهم يقتسمون الحر وأبواب البارات وأسواق الخضرة والساحات، منتشرين على مساحة واسعة من المدينة يعرضون بضاعتهم على المارة في فضاء تتحكم فيه الشمس والغبار والحر الشديد، من أجل توفير لقمة جافة وطعام خشن! كتب عن هذه القصيدة الشاعر عبد الكريم كاصد في مقدمته لديوان الشاعر مصطفى عبدالله:
«لعل ما يبدو مألوفا في هذه القصيدة هو في أشد حالاته اغترابا، في مجتمع شهد استرخاء ظاهريا كاذبا، حيث الناس يحتفلون بنزهاتهم اليومية المسترخية وسط أطفال مرهقين استحالوا رفوفا للتعب، لقد وصف الشاعر سعدي يوسف هذه القصيدة بأنها «شوكة في العينين»، ثم أضاف «في هذه القصيدة يوظف الشاعر اليومي لما هو أبقى، محتفيا بالإنسان، بالحياة نفسها رغم كل ما يكتنفها من مرارات يومية، وصراع مرير».
دأب الشاعر مصطفى عبد الله، خلال هجرته الطويلة عن الوطن، على تأمل حجم الفجيعة والخراب الذي حل بوطنه ومواطنيه، وإلى تأمل عمق الجراح التي أتت على المعالم الإنسانية في النفس العراقية الجمعية.
كانت هجرته القسرية بسبب السياسة والانتماء السياسي قد وضعت حدا بينه وبين جمهوره في العراق، فأصبح اسمه منحسرا عن عالم الشعر العراقي، لكنه طوّر أدواته الشعرية في الغربة فاتسعت اهتماماته الثقافية، وأصبح علما ثقافيا في بلاد المغرب، إذ أصبح مصطفى عبد الله ينافسهم حتى في كتابة تاريخهم الخاص (لديّ مخططات على شكل خرائط عن الطوارق وعن قادتهم تمثل مشروعا للراحل عن حياة هؤلاء الناس في الصحراء، وعن حضارتهم)، كما كتب قصصا للأطفال. ويقول صديقي الكاتب جاسم العايف إن الراحل «عاود نشاطه الثقافي الإبداعي المتنوع في المغرب، حيث نشر قصائده في الصحف المغربية، وكتب بعض الدراسات الأنثروبولوجية، وكتب ثلاث سيناريوهات لصالح المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الأيسيسكو) كما كتب سيناريو لفيلم رسوم متحركة بعنوان «زيدان الصياد» بالاشتراك مع الكاتب المغربي إدريس الصغير، وكذلك كتب سيناريو «أمس الاثنين وغدا الثــــلاثاء» بالاشــــتراك مع إدريس الصغير وأمين عبد الله وكتب سيناريو فيلم «كتاب الآس في حب فاس».
إن رحلة الشاعر مصطفى عبدالله الثقافية، أنتجت إبداعات مهمة في الشعر والقصة والمسرحية والسيناريو، تتطلب بعثها إلى الحياة بسبب أن هذه النتاجات غير معروفة حتى عند مثقفي مدينة البصرة، خصوصا الشباب منهم، بسبب هجرة الشاعر المبكرة وبسبب التعتيم الإعلامي المقصود من قبل النظام السابق لإبعاده عن الساحة الثقافية مع مجموعة كبيرة ومبدعة من شعراء العراق وكتابه.
لقد دأب الشاعر مصطفى عبد الله، خلال هجرته الطويلة عن الوطن، على تأمل حجم الفجيعة والخراب الذي حل بوطنه ومواطنيه، وإلى تأمل عمق الجراح التي أتت على المعالم الإنسانية في النفس العراقية الجمعية. وفي بداية هجرته كان يتملكه إحساس بعودة قريبة، وبنهاية متفائلة لهذا النزيف، وقد اتضح ذلك في نتاجه الشعري نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين، لكنه أدرك بعد ذلك أن غربته قد ترسخت وأن العودة إلى الوطن شبه مستحيلة، ولذلك دأب على تأمل حجم هذه الكارثة، مقترباً من أسبابها مخاطباً الذات المنكسرة، وفق آليات خطاب هذا الانكسار: الاعتراف به، محاورة السيد الأقوى من موقع أدنى، استخدام وسائل التبجيل والتفخيم، ثم الإسهاب في تجسيد وتصوير حجم قسوة الآخر على هذه الذات وتداعيات هذه القسوة عليها. وهنا تحول خطاب الشاعر من خطاب تحريضي يمتلك أسباب الرفض والتمرد، إلى خطاب تأملي -حسي بحجم هذا الانكسار، وقد تميز بالشفافية والحزن الإنساني المتعالي على الجراح والآلام. ولم يكن ذلك استسلاماً من الشاعر أو اعترافاً بالهزيمة كمصير نهائي، بل إن هذا الخطاب سياحة حية في عمق الذات المكابرة التي تتلقى القسوة والعنف باللامبالاة. إنها ترتب لها كياناً شفافاً تخترقه سهام الخراب، بدون أن تلويه أو تشوهه، وهو نوع من مكابرة الذات عاشها العراقيون طيلة أيام المحنة التي استمرت أربعين عاماً، وكان الشاعر الراحل واحداً من شعبه، وكأنه لم يغادر وطنه أو يبتعد عنه.
إن القراءة المتمعنة لنتاج هذا الشاعر خصوصاً قبيل وفاته عام 1989 سيجد تلك الشفافية وذلك الحزن الشفيف، وسيتعرف في الوقت نفسه على عمق هذا الخطاب وجماليات تشكله بمجازات مبتكرة وأدوات تعبيرية خاصة تستحق الدراسة والتأمل في بنيته، وما تنتجه من دلالات مؤثرة. نشير بشكل خاص إلى قصائده: «الأجنبي الجميل، سيدي الصمت، سيدي الزمان، سيدي الخوف، يا خلوة التابوت» التي استثمرت الغربة قناعا لتوكيد الهوية وعودة الذات إلى البيت/ الوطن، الذي بقي عالقا في أعماق ذاته، على الرغم من غربته المريرة.
٭ كاتب عراقي