يبدأ الخلل بالتسلل إلى القيم والمعايير الشائعة، عندما ترتبط السلوكيات الحسنة والأخلاق المثلى والمعرفة العالية والشهادات وغيرها بالعامل الاقتصادي. وهذه النقطة تعيدنا إلى الخلف عند تقييم الآخرين، على الرغم من انها ليست مبررًا لما هو منبوذ وسيئ، فقد خرج من عوائل متعبة من طلب العيش والحاجة أنواع المبدعين، رفدوا الحياة بكل المجالات، إلا أن الغالب عكس ذلك تماما، من تدهور السلوك الاجتماعي وغياب الإصحاح البيئي والثقافي إلى المقاييس المشاعة، التي لا تعير الأسباب أهمية واضحة. وقد يسأل أحدهم كيف يؤثر العامل الاقتصادي؟ وما علاقة القيم على أنواعها بالعامل الاقتصادي؟ وتأثير كل منهما في الآخر؟
العامل الاقتصادي، هو الذي ينتشل الكثير من الناس، ويضعهم في الظروف المناسبة
الأمر ببساطة، هناك إجراءات وتطبيقات في المجتمع، تحمل هذا المعنى وتوضحه، فكثيرا ما شهدنا عائلات كل همها كان يتمحور حول جمع مبلغ مادي جيد، يمنحها تذكرة الخروج من المدينة أو المحلة أو الزقاق، الذي يقيمون فيه، ذلك عندما يتوفّر محيط آمن ونظيف إلى حد ما اجتماعيا وثقافيا، ويستطيع أولادك الذهاب إلى المدرسة والجامعة، وتستطيع أن تشتري ما تحتاجه، فلن يكون هناك عوز مادي يؤدي إلى عوز معنوي/ نفسي، يترك آثاره الهامشية التي تصبح جوهرا في ما بعد في تكوين شخصية هذا الفرد وطريقة تفكيره. فأنت ستؤسس فردا مختلفا حتى لو بنسبة محدودة، لكنها تحمل مفاتيح كثيرة للتغيير.
العامل الاقتصادي، هو الذي ينتشل الكثير من الناس، ويضعهم في الظروف المناسبة. فنقول هذا «ابن عائلة» وهذا «متعوب عليه» وهذا تعب على نفسه وإلخ. إنها الظروف لا اكثر التي جعلت من هذا الفرد ما هو عليه، وجعلت من غيره ما هو عليه. عدا حالات شاذة، وحتى هذه الحالات الشاذة تحمل معها أسبابا لا يسلط الضوء عليها كثيرا، أي لا يكون العامل الاقتصادي منفردا بالأسباب والنتائج كلها، لكنه لاعب أساس. وهنا يظهر الخلل في التقييمات الأخلاقية والمثالية المتعارف عليها.
نحن من أكثر المجتمعات التي تعاني من الطبقية، لكننا ننكر ذلك ونتوهم أننا لسنا كذلك، والطبقية تخترق المجتمع أكثر كلما كانت ثقافته هشة ورخوة، قائمة على فكرة الرعاة والقطعان في آن وشتاتهما، تخلو من مضادات فكرية، تحمي الفرد من التأثر والتفكير بهذه الطريقة المليئة بالتمايز. ومن الضروري الإشارة إلى أن المستوى التعليمي والثقافي في حقبات زمنية ماضية، كان مرتبطا بالنبلاء، والعوائل الأرستقراطية، بل إنه كان حكرا عليهم الى حد ما، بسبب انشغال الطبقات الأدنى بفرص العيش الضئيلة، حتى إننا شهدنا كتّابا مشهورين ينتمون إلى هذه الفئة، لكنهم يحملون في سلوكهم الحياتي واليومي، تمايزا وتعاليا لم تخترقه الدراسة ولا التعليم، أو الشهادة إلا أنها كانت عاملا محددا ومخففا عند البعض.
ومن الهشاشة الاقتصادية في الطبقات الدنيا، تظهر لنا «أخلاق العبيد»، وهي ليست أخلاقا بقدر ما هي انكسارات حياة وهموم وأوجاع ومسؤوليات ونقص يطغى على كل الاحتياجات، فيضطر هذا الفرد إلى أن يكون سلسا، بسيطا، صبورا، غير منتفض، داعيا للعدالة والمساواة، لا يملك ردود فعل حادة، إلا ما ندر، كما اشار نيتشة إلى ذلك.
وإذا ما شاءت الأقدار أن يتمكن هذا الفرد من الحياة، وتجد له طرق العيش أساليبها، ويصبح من الاغنياء، في الغالب لا الكل، فإنه يتحول إلى صورة مشوشة، تضع قدمًا في عالم الأغنياء وأماكن تجمعاتهم وطرق تفكيرهم وسلوكياتهم، وقدمه الأخرى ثابتة في الماضي، فتظهر عندنا تسميات مستنسخة، مرتبطة بالمال، مثل «الحجي» و السيد» و«الأستاذ» و«الشيخ» و«المعلّم» وغيرها، وهي في أغلبها مجرد ثياب لا تلائمه، فهو ليس حاجا ولا شيخا ولا سيدا بالمعنى الصحيح المتعارف عليه في المجتمع، فالأموال هنا تشتري القيمة مثلما تشتري الثياب التي تعجب الناس، ويعيش معها الكذبة التي صدقها هو، وصدقها الذين حوله من أجل مصلحة معينة أو بعد أن تحولت بفعل الاستمرارية والممارسة لهذا الدور، حقيقة راسخة معمولا بها كجزء من ثقافة الفرد، ولازمة من لوازم تسيير الحياة. وهو أيضا نوع من التشبّه بـ«أخلاق السادة» أو «النبلاء»، الذين في الغالب هم من ينحتون الفارق الطبقي ويعززونه قدر المستطاع، حتى أصبح طموحا لتلك الفئة المسحوقة. ومن منظور نيتشة أيضا أن سلوك الذين يحملون «اخلاق العبيد»، ما هو إلا سلوك مصطنع ورد فعل تجاه «أخلاق السادة»، الذين بدورهم يستمدون قوتهم من شعورهم بالتميز ويلصقون الصفات المنبوذة بمن عداهم. وكأن نيتشة يريد أن يقول من خلال هذين النمطين، إن الإنسان أقرب في سلوكه الجوهري إلى «أخلاق السادة»، وذلك عندما اعتبر «أخلاق العبيد» مصطنعة، ولا تتعدى كونها ردود فعل، انطلاقا من رؤيته بأحقية السادة قي تخليق القيم، وفي ذلك إحالة إلى إنسانه الأعلى بشكل أو بآخر .
هذه الفوارق والتناقضات كلها، أدت الى ظهور هذه الفئات المتقمصة أو المنتحِلة لصورة معينة يجدها المجتمع صورة جذّابة ومفضلة، تحيطها هالة المكانة الاجتماعية او الثقافية وحتى الدينية. عندما لا يجد الإنسان حلا لمصيبة ما، أو واقع معين، يبدأ بتمجيده، وهذا ما حصل ويحصل عندما أصبح في وقت ما، خاصة أثناء فترات الحروب والحصار، تمجيدا وتعظيما للفقير والفقر بكل ما يعنيه من العجز والتعب والضيم والخوف وقلة الحيلة، حيث إن العيش لسنوات طويلة تحت خيمة هذه الظروف، جعل الإنسان توّاقا إلى هجرتها بكل ما فيها من قيم مادية ومعنوية. أما بالنسبة للفرد الذي يولد ضمن بيئة مماثلة، فإنه يتخلق بأخلاق ذويه وعشيرته وبيئته، من دون أن يعي مصدرها. ولعل الأفراد الذين ولدوا بمثل هذه الظروف، ووجدوا منظومة خلقية متكاملة، أكثر وأقرب في تمسكهم لما تعنيه تلك القيم الفاضلة، ذلك أنهم لم يختبروا الأسباب التي دعت الآباء والأجداد إلى ذلك. ولعلهم الأكثر تعرضا للصدمة والصراعات بعد أن أدركوا ان معظم تلك القيم ما هي إلا قيم معطلة، تسير على الألسن وتغيب عن الأفعال. من ذلك يرد في المجتمع مثل هذه الأقوال: فلان تغير، لأنه صار غنيا مثلا، أو امتلك إرثا أو أصبح من أصحاب الشركات وغيرها. وبشكل عام يبقى الحديث عائما في إطار من النسبية، لاختلاف القرائن وشذوذ الكثير من الأمثلة، خاصة تلك التي تتبنى القاعدة الخلقية تبنيًا عن قناعة شخصية، سواء كانت هذه القناعة مردودة إلى حيز عقلي فكري، أو الى مناخ تأملي عقائدي .
٭ كاتب عراقي
اي مجتمع بدون قيادة قادرة، رائدة، راشدة،رشيدة، صالحة ومصلحة تجده في غيبوبة تنهش به جرذان وثعابين وضباع الفساد بجميع انواعه. هذة هي ميزة العراق و العديد من بلدان العالم منذ عقود طويلة.
العراق كله للبيع وكل شيء فيه مباح.