الأمراض النخبوية موجودة في كل المجتمعات، لكن تبعاتها في الدول المتخلفة، كالدول العربية تأخذ أبعادا في منتهى البشاعة… ما لا يحصى من المقالات وآلاف الساعات من البث السمعي البصري طوال العقدين الماضيين أو أكثر، أبرزت الكثير من الكتاب والمثقفين، الذين أصبحوا مرادفا للحرب على الاستبداد. وما ان’ سقط’ ذلك الشيء، حتى هرول الجميع ليأخذوا جزءا من تلك الخرقة البالية.. مارس نظام بن علي ومبارك والقذافي والآخرين، سلطة أبوية. لم يعد معها الفرد، يعرف ماذا تعني الحرية بالضبط. فهي في نظر الرؤساء المخلدين والملوك والأمراء مجرد ترف خطير، يزداد خطره كلما اقترب من السلطة، ويجب الاعتراف والتذكير من دون ملل، بأن كلمة حرية عند الذين عارضوا هذه الأنظمة من الكتاب والمثقفين، كانت تعني العدالة عند رجل الشارع. فعامة الشعب لا تهتم بمسائل الرقابة على الإبداع أو الفن بقدر اهتمامها بالمساواة ومحاربة ناهبي المال العام. بعد سقوط الأنظمة الفاسدة، لم تكن النخب المعارضة تمتلك إجابة واضحة لمسألة السلطة الأبوية. والحقيقة أن هذه الفضيحة بدأت قبل ذلك ، في العراق مع صدام حسين، الذي لم يبخل على العراقيين بنسخ من الإسمنت عن شخصه في كل ساحة من ساحات المدن العراقية. لقد اعتبرت المعارضة أنه الشيطان وأنه لا بد للقضاء عليه، من شيطان أكبر – حسب التعبير الايراني- وفي نهاية المطاف أصبح للعراقيين أصنام صغيرة، بألوان مختلفة. والغريب أن يتكرر هذا المشهد البائس بعد أحداث الربيع العربي. لا يجب أبدا الاكتراث بالشكليات وبمسألة الخصوصية القطرية وباقي التفاصيل، لأن النتيجة هي أن الإخوة الصغار يتنافسون دوما على إرث الأخ الكبير. الجميع اليوم في تونس وفي مصر وفي غيرهما يتحدث باسم الشعب. كما كان يفعل مبارك والآخرون. والأخ الكبير كما الإخوة الصغار لديهم ألف طريقة ليثبتوا صحة هذا الكلام. لا تعني العدالة أي شيء بالنسبة لهؤلاء جميعا. لأن كل طرف يحاول أن يعطيها تفسيرا خاصا به. والمشكلة – حتى الآن – هي الإيمان بأن ذلك التفسير هو الأمثل. وقد اتضح ذلك جليا حين أعلن الرئيس المصري المعزول، ذلك الإعلان الدستوري لحماية ما يسمى بالثورة المصرية. وهو تصرف ساذج من وجهة نظر السياسة العملية، التي تبحث عن العدالة من خلال السيادة الشعبية. وليس من خلال الأخ الكبير، الذي يعرف مصلحة بقية أفراد الشعب أكثر مما يعرفون، أي أن مبدأ العدالة هنا يبتعد عن فكرة المهدية المنقذة. لقد كان محمد مرسي حريصا على الثورة من دون أدنى شك- لدرجة انسياقه وراء قرارات كانت تزيد الطين بلة، أي أنه كان يجب أن يقارب العدالة من خلال الخطأ مع الجماعة، بدلا من محاولة الإصابة بمفرده. وهذا أمر شائع في أدبيات الحركات الإسلامية وتدعمه الكثير من السوابق أو الشواهد الموجودة في التراث الإسلامي، لكنه معطل من الناحية العملية. لم يرث الإخوة الصغار – بعد الربيع – عقل الأخ الكبير، لأنه كان موجودا وكامنا فيها. والأمثلة في الدول العربية كثيرة، ولكن المشهد المصري اليوم هو الأكثر وضوحا. فالممارسات التي يقوم بها الاشتراكيون والقوميون، بعد عزل مرسي هي نفسها، التي كانوا يهاجمونه من أجلها، بل حتى أسوأ، لأن المسألة تخطت خلافات حول الدستور وما شابه، ولأنه حين يبشر ذلك الكاتب، أو المثقف الذي أمضى سنوات في محاربة الاستبداد، بقدوم زعيم آخر، نستنتج بأن مصادرة إرادة الشعب، هي فكرة سابقة وراسخة في الذهن، وهي فوق مسألة الحرية أو مبدأ العدالة. إن السبب الرئيسي، خلف هيمنة وبقاء عقل وسلوك الأخ الكبير – بعد الربيع السياسي- هو إبعاد الفرد أو الإنسان كمنطلق أو كفكرة أولية يتم البناء عليها، فلا يوجد اختلاف حول هذه النقطة، بين شيوعي أو ليبرالي أو قومي أو إسلامي، أي أن العقل العربي يضع الغاية قبل الفرد، أو بمعنى آخر، هو مهتم بتحقيق الفضيلة، ولا يهم هنا ماهية هذه الفضيلة بالطبع، المهم أن الإنسان العربي كفرد شيء معدوم ولا يمكن أن يتأسس عليه أي شيء منتج. وهو في أحسن الأحوال وعاء سليم وفارغ ينتظر أن يمتلئ بالأيديولوجيا، التي سوف توصله في نهاية المطاف إلى السعادة، إلى درجة أن آليات الديمقراطية التي أثبتت نجاعتها في الدول المتقدمة تم كسرها والطعن فيها بسهولة، ومن دون اكتراث يذكر. لا يزال الإنسان في الغرب، يناضل من أجل تقليم أظافر الأخ الكبير. والصراع مستمر، لأن المسألة موضوعية ولصيقة بإشكالية السلطة، لكن أولوية الفرد أو الإنسان كمرجعية أساسية، في أغلب المدارس الفكرية الغربية أوجدت الإمكانية لتحقيق أشكال متقدمة من الحرية والعدالة، في حين يهيمن على سياسيي ونخب العالم العربي العكس. فالحرية والعدالة في عقول هؤلاء، غايات واضحة المعالم والطريق وسوف يتم تنزيلها بالعمل السياسي، وتحديدا من خلال السلطة، فالإخوة الصغار لا يرون في مفهوم المعارضة سوى كلمة رفض كل شيء، يأتي من الأعلى، ربما بحكم العادة، والأرجح كما قلنا هو اعتماد السلطة – الدولة، كثنائية ملغمة لتحديد العلاقات داخل المجتمع، أي أنه لا يوجد فرق بين أصنام الاستبداد التي سقطت وبين أدعياء الحرية، من كتاب ومثقفين يحتقرون الانسان العربي من دون أن يقدموا له أي شيء ملموس على المستوى الفكري، بالأساس، وبدلا من ذلك يتم إغراقه في أشكال مزيفة من الصراع الأيديولوجي من قبيل إسلاميين وغير إسلاميين. إن العقل العربي متخلف جدا وهذا لا يحتاج لدليل بقدر ما يحتاج إلى اعتراف صريح تمارس بعده النخب الفكرية والسياسية عملية تطهير طويلة المدى.. لأن الأدران كثيرة وهي لن تذهب من تلقاء نفسها، وربما تكون السلطة الأبوية أحد هذه الأدران التي يجب على ورثة الأنظمة الساقطة أن تتخلص منها بدلا من محاولة تقمصها.