في مستهل كتابه «الأدب والتكنولوجيا» يؤكد حسام الخطيب أن الأدب العربي الكلاسيكي كان سباقا في التنبؤ بالاختراعات الحديثة، وأن ما يشاع عن التنافر بين العلم والأدب مسألة ليس لها رصيد. فالعرب لم يحتكموا للبداهة أو السليقة فقط في التعبير الأدبي، وإنما اهتموا بما يسمونه الصناعة أو تحسين القول. وكان الجاحظ في طليعة من أسس لعلاقة بين الجانبين. فالعرب ينقحون أشعارهم، وكان المتنبي أهم من شرح العاطفة والبديهة بالحكمة، بالإضافة إلى أن قصائده تبدو وكأنها حدس باكتشافات علمية متأخرة، من ذلك مديحه لسيف الدولة، فقد كان غنيا بصور عن سلاح يضرب من الجو ويساند الغزو البري وسلاح الدبابات. هذا غير ما جاء على لسان النابغة من وصف لضوء يتحدى سلطة الليل كما لو أنه الكهرباء. ويسمي حسام الخطيب هذه الظاهرة بالومضات التي تستشرف تطورات المستقبل، مع أن كل ذلك لا يخالف القاعدة الذهبية التي ترى أن الفن يحرر الروح من قيود المنطق البارد. لقد ورد ذكر الطير الأبابيل التي تقصف الجيش البري في «سورة الفيل» التي سبقت المتنبي بحوالي 3 – 4 قرون. وفي السياق نفسه يمكن النظر للثور السماوي والأسد المجنح وغير ذلك من رموز الحرب التي وردت في الأساطير المبكرة. ولم تكن الحساسية الشعرية في القرن العشرين بعيدة عن هذا التصور. فأمير الشعراء أحمد شوقي شبّه الطائرة بالنحلة، وصوتها بهزيم الرعد ونواح العاصفة.
وأساسا الشعر مجرد خيال يعتمد على تشبيه المعروف بغير المعروف. وعمليا كان التأثير والتأثر يتحرك باتجاهين، كما يقول حسام، ويوضح ذلك بالحقائق التالية.
أولا أن أهل الأدب سبقوا العلماء والتكنولوجيين في تصور الاختراعات. ويذكرنا بقصص السير والملاحم الشعبية، وفي المقدمة «ألف ليلة وليلة»، وما حفلت به من صور عن إنسان يطير وغبار ذري وأبواب أوتوماتيكية تفتحها ببصمة الصوت وغير ذلك. ولكنه يهمل تماما قصص المعجزات والخوارق التي تخللت سيرة الأنبياء والصالحين. ولدينا منها كم هائل، بدأ مع روايات السيرة والإسراء والمعراج وانتهى بكتابات سعيد جودة السحار وشريكه سيد قطب.
ثانيا إن العقل العربي المعاصر، مثل الكلاسيكي، لا يزال بعيدا عن التكنولوجيا، وذاكرته الخيالية هي التي تقود خطاه. مع ذلك كان لدينا في تراثنا القديم قبل اختراع الإنترنت هايبر تكست (نص مفرع) وهايبر ميديا (نص متعدد الوسائط). وفن الشرح والحواشي عند العرب ليس غريبا على الهايبر تكست. فقد اعتبر العرب النص كائنا حيا له دلالات متطورة، وقد تعددت أشكال الشروح والاستدراكات، وكانت إسهاما من قراء متميزين أغنت النص الأصلي. وقاد ذلك لتجاوز بنية السطر والتعاقب واعتماد تفريعات ونوافذ، وكان المتن يتصل بالشرح بشكل إطار حول النص وكأننا أمام حاسوب أو نوافذ متداخلة. ومن أهم الأمثلة على ذلك «منهاج الطالبين» للإمام يحيى بن شرف النووي و«نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» للشافعي الصغير.
لم يكن بمقدور بنية خيالنا الأدبي أن تجاري التيار الجارف للاختراعات الحديثة في العالم. ومثل هذا القصور ناجم عن حالة التراخي والسلفية والجمود التي ورثناها بعد عدة قرون من الاستعمار والتخلف.
ثالثا إن أدبنا المعاصر محروم من الخيال القوي ويقلد شطحات الغرب، بل يكاد أن يحاكيه.
رابعا لم يكن بمقدور بنية خيالنا الأدبي أن تجاري التيار الجارف للاختراعات الحديثة في العالم. ومثل هذا القصور ناجم عن حالة التراخي والسلفية والجمود التي ورثناها بعد عدة قرون من الاستعمار والتخلف.
خامسا وأخيرا لم تترك لنا الثورة التكنولوجية مجالا لمتابعة تحولاتها في الشكل والمضمون. ولكن هذا لا يمنع، كما ورد في الخاتمة، من أن يؤدي زيادة عدد مستخدمي الحاسوب للتوسع في أمرين اثنين، (1) زيادة رقعة العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا باتجاه التفاعل والتحاور، مع تضاعف الخوف من عزلة الأدب وانكفائه على ماضيه. (2) وزيادة دور التناص وانتشار الكتابة التكوينية التي دخلت في مرحلة الثورة أو الانقلاب بسبب نمو العقلية الحاسوبية بدلا من الذاكرة والبديهة والتدوين. ويطيب لحسام الخطيب هنا التمييز بين العلوم والتكنولوجيا. فالطرف الأول برأيه أقرب للطبيعة، والثاني أقرب للإنسان. بمعنى أن العلوم ذات هدف عام ورسالة تؤثر في الحضارة، بينما التكنولوجيا ذات هدف عاجل يؤثر في الأفراد وأسلوب حياتهم. وفي غمار هذا التفسير الحضاري سقط سهوا الجانب السياسي من المشكلة. وغاب عن ذهن الخطيب أن الشرق المتدني من ناحية التطور ينظر بعين الشك والريبة لكل اكتشاف علمي، ولو أنه يزيد من درجة الرفاهية والنمو كما في مرثية عبد الباسط الصوفي للغرب «الذي حبس الإنسان في آلة». وكما في قصيدة أدونيس «قبر من أجل نيويورك» التي تنظر لهذه المدينة الخالدة على أنها صفائح من المعدن، وبرأس أعمى، وبشر يعيشون كالنباتات في بيوت من زجاج. وهذا يفسر لماذا اختار حسام الخطيب تحليل ودراسة الأعمال المستقبلية، وكل ما يستجد من أمور، لكنه لم يلق ولو ضوءا واحدا على أدبيات أعماق البحار وباطن الأرض، أو حتى أدبيات ترميم الذاكرة القديمة. ويبدو أن فلسفته كانت مع تفكيكية دريدا وليست مع حفريات فوكو، ومع التكهن وكدّ الذهن، وليس مع الاستدلال. وعموما إن التاريخ تيار مستمر، وما بدأ بشكل تصور بقوة الخيال انتهى لواقع مألوف. ومع الأتمتة تكسرت القوالب التقليدية في الشعر والنثر. ومع القصيدة المرئية برزت للوجود الرواية الجديدة، ثم دخلت القصيدة التفاعلية ميدان السباق ونافست الرواية التلفزيونية. وأصبحت مع النص المكتوب تتضمن العديد من الصور والمشاهد المتحركة التي تحتاج لاستعمال أساليب متعددة الوسائط. وهذا يفترض إلغاء أساليب النشر القديمة. ومن الأمثلة على ذلك جماعة «إلى» (علي رشيد وكيتا باردول في الفن التشكيلي، وعادل حوشان في الشعر والقصة). وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم أنواع القراء إلى متصفح ومتفاعل ومشارك.
لكن لا أعتقد أن التكنولوجيا جزار أو سفاح يحمل سلاحا فتاكا ضد أصالة الإنسان وانتمائه، بل هي مستوى تجريدي آخر من الرموز، ويمكن دائما تصنيف الرموز في نوعين: فطرية وهي جزء لا يتجزأ من شخصية الإنسان في كل مراحل تطوره، ومكتسبة بواسطة نظام المعرفة. وأخيرا، لا أرى أي إمكانية لتأكيد فكرة حسام الخطيب أن البيولوجيا تتوسع على حساب الفيزياء. فعلم الخلية والمورثات يحتاج لتفسير فيزيائي، والبيولوجيا في أبسط تعريفاتها هي لغة الحياة لتفسير سلوك المادة. وهذا يعني أنها كيمياء فيزيائية. إنه بلا معرفة في ما يتعلق باستجابة جدار الخلية ومحتوياتها للإجهادات، ولولا تقدم علم العدسات، لما أمكن تحقيق أي تطور في الهندسة الوراثية، التي هي برأي جيل دولوز منعطف أساسي في فهم قضايا الوجود والحركة.
٭ «الأدب والتكنولوجيا وجسرالنص المفرع» 326 صفحة مطبوعات رام الله 2018.
٭ كاتب سوري