لماذا لا يحدث هذا إلا في البلاد العربية التي تصر على عدم التخلي عن الممارسات التي أصبحت اليوم معطلة لأي أمل في التطور، والخروج من دائرة التخلف؟ الجريمة السياسية تحديداً رافقت التحولات السياسية العربية في غياب كلي لأي مشروع ديمقراطي، منذ أن تأسست هذه الأخيرة ككيان حضاري كبير، ثم ككيانات إقليمية بحدود وأنظمة.
المختلف الذي لا شك في وطنيته يهدد ثم يعزر بعنف قبل الاختطاف والتعذيب، ثم القتل وإخفاء الجريمة، وكأن شيئًا لم يحدث. لم يكن أبو ذر الغفاري مارقًا ولا سارقًا، لكن ذلك لم يمنع المؤسسة المتعالية الحاكمة من محاكمته صوريًا، ورميه في صحراء الربذة هو وعائلته تحت الحَر، لينتهي هناك جوعًا وعطشًا. لم يكن الاختطاف عاديًا، فقد جاء عن معرفة بالشخص، ولم يشفع له كونه صحابيًا. إن الاستبداد الشرقي الذي نشأ في رحم الدولة العثمانية لاحقًا، صوره عبد الرحمن الكواكبي أدق تصوير في كتابه (طبائع الاستبداد). فالمستبد لا صديق له إلا سلطانه، فهو مالك للخيرات ولكنه أيضًا مالك لمصائر البشر ولأرواحهم. فقد تم تسميمه في النهاية.
اختُطف الحلاج من أسواق بغداد واقتيد نحو محاكمة طالت بلا معنى، لأن المصير كان قد سطر سلفًا، فالطاغية لا قانون له إلا قانونه، وانتهت المحاكمة بصلبه وتقطيع أطرافه، ودق عنقه، وحرقه، ثم رمي رماده من أعلى مئذنة في بغداد. فأي مصير وأي مرض في شكل القتل؟ وكان الباحث العظيم لويس ماسينيون خصص له كتابًا مفصلاً لم يترك فيه لا شاردة ولا واردة.
اختُطف الحلاج من أسواق بغداد واقتيد نحو محاكمة طالت بلا معنى، لأن المصير كان قد سطر سلفًا، فالطاغية لا قانون له إلا قانونه، وانتهت المحاكمة بصلبه وتقطيع أطرافه.
لماذا كل هذه السادية في ثقافة القتل؟ ماذا استفاد القاتل في النهاية سوى أنه كان وراء هندسة موت شديد القسوة، حفظته الذاكرة الجمعية؟ وما دامت المؤسسة الحاكمة قد رأت في عبد الله ابن المقفع عدوها الثقافي والسياسي الذي فضح ممارساتها بالتخفي وراء عالم الحيوان، فقد قررت قتله والانتهاء منه. عندما مثل ابن المقفع أمام سفيان بن معاوية، أمر هذا الأخير بإحضار فرن تنور فَسجَّره وأوقده حتى أصبح حاميًا مُتوّقدًا، عندئذٍ أمر سفيان رجاله بتقطيع أعضاء وأطراف عبد الله بن المقفع عضوًا عضوًا، وكُلما قطعوا عضوًا من جسمه يقول لهم سفيان بن معاوية:» ألقوه وارموه في النار». فجعل رجال سفيان يقطعون أعضاءه ثم يرمونها في الفرن حتى تحترق، بينما عبد الله بن المقفع يرى وينظر لها حتى هلك ومات من شدة التعذيب. أية لذة كان يشعر بها القاتل الذي أمر بتنفيذ الإعدام بسبب شتيمة طائشة أو رأي مخالف، أو كتاب هو في الأصل مترجم من الهندية؟!
كل القتلة أدركهم التاريخ وحجمهم وفضحهم، فعلى الرغم من جرائم محاكم التفتيش المقدس التي ظلت في خدمة الملوك الكاثوليك في إسبانيا، عندما شكت في دين ونسب من سيصبح أهم كاتب في العالم «ميغيل دي سيرفانتس»، لم تمزقه ولم تذبحه ولم تقتله، وعندما عاد إلى إسبانيا طلبت منه المحاكم وثيقة إثبات نقاء الدم، الوثيقة التي تثبت أنه لا يوجد في سلالته أي مسلم أو أي يهودي. ففعل، وخرج سالمًا من محنته.
على العكـــس من ذلك، لم يكــن للبشــــــير حـــاج عـــلي الحظ نفسه، كان شاعـــرًا رقـــيقًا ومناضـــلاً يساريًا، وسجن بعد انقلاب هـــواري بومـــدين (1965) على ابن بيلا، ثــم ألقــي عليه القبـــض، وظلـــوا يعذبـــونه بالخوذة الألمـــانـــية Le Casque allemand بالضرب عليها بالمطارق، وهي على رأسه، وتصدر الأصوات الضخمة فتجعل الأذنين تنزفان دمًا، ففقد ذاكرته شيئًا فشيئًا حتى امحت نهائيًا، وعندما أطلق سراحه كتب كتابه الأخير (العسف) بصعوبة، ومات بلا ذاكرة. لقد فعلت الخوذة الألمانية فعلها دون أن تترك أثرًا.
يموت الكثيرون بالسم السري، أو السم الأبيض كما يسمى، أو بموت الصدفة المدبرة كحادث طائرة مثلًا، أو دهسًا بالسيارة، أو انحراف المركبة عن مسارها وسقوطها في الأخدود، فلا نعرف من كان وراء الجريمة. أو بالمناداة كما فعل صدام عندما نادى على أسماء بعض قادته في اجتماع عام، كأنه ينادي على تلاميذ مدرسة من المدارس في القسم وليس على قائمة من حكم عليهم بالإعدام بتهمة خيانة البعث والتعامل مع الأسد، تلك جملة واحدة قالها صدام وهو يدخن على المنصة، بلا قانون ولا محاكمات: «كل من يسمع اسمه، يردد شعار الحزب ويطلع». القائد السياسي الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو أيام الوحدة، الذي اختطف من بيروت واقتيد إلى دمشق، وهناك عذب حتى الموت في 1959، ثم تم تقطيع جثمانه بالمنشار لمحو الأثر نهائيًا ثم تذويب القطع في الآسيد لإخفاء معالم الجريمة.
ينسى الطغاة الصغار، الذين يظنون أنفسهم فوق القانون، أن سلطان التاريخ أقوى ولا ينسى شيئًا، فيموت الحكام وتبقى الجريمة حية في وجدان الظلم العام. وعندما نقرأ أدبنا العربي الحديث من عبد الرحمن منيف، وغالب هلسا، ونبيل سليمان، وجمال الغيطاني، وإسماعيل فهد إسماعيل، ومصطفى خليفة، وغيرهم كثير، ندرك كم أن الأدب ظل حيًا في تتبع تفاصيل الجريمة السياسية. لهذا، في العصر الحديث، منذ أن اكتشف رفاعة رافع الطهطاوي المجتمع الغربي وعلاقته باحترام الفرد، وترجم الدستور الديمقراطي الفرنسي وقارن بينه وبين نظام الحكم في مصر (في فترة محمد علي)، اكتشف أن الأمر يختلف جذريًا بين استبداد شرقي وانفتاح أوروبي، بين الفردية المتسلطة وجماعية المراقبة وعزل الحاكم المستبد. إن العدل ضد الطغاة الصغار هو أنه لا يمكنهم أن يهربوا من مصائرهم التراجيدية التي تدركهم حتى وهم في القبور. فهو عدوي، وهم محاطون بعالم أوسع من مرمى بصرهم المحدود، تحكمه المصالح والصراعات المتضاربة، وعندما تنتهي الصلاحية يسقطون في الشبكة التي نصبوها لغيرهم.
الاستاذ واسيني المحترم فقط تنويه ان فرج الله الحلو هو شيوعي سوري من مدينة حمص ، ولكن كان الحزبان الشيوعيان السوري واللبناني حزبا واحدا لذلك فكلاهما يتبنى فرج الله ويتفاخر به .
المقال رائع وجميل جدا وبخاصة التعرض لشخصيات تاريخية ، وما اكثرها ، فليس عندنا الا السيف . نتذكر ام قرفه حيث ماتت بابشع طريقة موت في التاريخ في العالم .
على ما اذكر فإن عبدالله بن المقفع قتل أيام المنصور وليس أيام الدولة الأموية
ليس الامر راجع للاستبداد الشرقي…مقابلة بالانفتاح الغربي بل هو” الانسان الذي أشكل عليه الانسان”…أو ربما ما تأسف له ترامب من ضعف في مهارات التستر بعد الجرم…نحيل كاتبنا الى اغتيال بو منجل المحامي والعربي بلمهيدي وقت فرنسا …حقوق الانسان
السلام عليكم
تحية خالصة لكم جميعا
أمّا بعد..
أستاذنا “واسيني”لكل قوم وملّة جرائم منها الفاجرة ومنها القاتلةومنها الأخلاقية ومنها السياسية ومنها الإجتماعية وللأسف كلها تصب في بوتقة واحدة “تصفية الخصم”…لكن الملاحظ أنّ جرائمنا قد شملت كل أنواع الجرائم ولم تتوقف عندهذا بل ممّا شانها وفضحها لم تعرف التستر أو المهادنة أو التخفي تقوم بالجريمة وهي واثقة أنّها لا حسيب ولا رقيب فوق القانون وما يسمى بالعدالة فهي من نسيجهم وثوب على المقاس..وما زادهم قبحا وفضيحة يمشون في جنازة الهالك ويترحمون عليه ويعزون ذويه وكأنّ الأمر لا يعنيهم وفضيحتهم كمن ينخ في الماء لتظهر على سطحه بالونات هوائه وهو يظن أن لا أحد يرى بالوناته؟؟(هناك مثل آخر يقال في هذا المضمار ولكن حبّا في القرّاء وقدسنا الغراء لم أرد أن أقوله و إكتفيت بتحويره..)
الخلاصة: لا يستطيع كائن من كان أن يحرم غيره من التعبير عن رأيّه سوى مستبد أوخائن أوطاغ أوجبان لا يواجه
ولله في خلقه شؤون
وسبحان الله
سيد إبراهيم الأردن …
سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة قاتل ابن المقفع هو والي البصرة في عهد أبي جعفر المنصور.