في عام 1890 قدم الفيلسوف الألماني فيلهلم دلتاي في جامعة برلين محاضرة بعنوان «نظام الأخلاق» حيث تناول فيها بعض المبادئ الأساسية التي تحكم وجود البشر، ليخلص إلى مقولة (رؤية العالم) التي ترى بأن وجود البشر – أفراداً وجماعات – لا تتحقق من خلال معاينة العالم عبر منظور معرفي، إنما ينبغي أن تخضع هذه الرؤية لمبدأ قيمي، وبناء على ذلك، فإن العلوم الطبيعية ستكون عاجزة عن تقديم تصور شمولي للعالم، فرؤية العالم هي فعل التفكير العميق الذي ينظر إلى العالم لا بوصفه وجوداً، إنما ما يعطي – حقيقة- وجودنا قيمة، وما يجعلنا أيضاً نناضل من أجله، أو ما يستحق هذا الوجود.
إن نظرية فيلهلم دلتاي تذهب مباشرة إلى تأمل الحياة بوقائعها، بعيدا عن تلك الرؤية المثالية الهيجلية التي ميزت الفلسفة المثالية، إذ إن تجلي العالم التاريخي يأتي من المعاينة المباشرة، بحيث يدرك الإنسان وقائعه، وبذلك فإن ثمة تحدياً واضحاً للمبادئ فوق الطبيعية أو الميتافيزيقية، كما ثمة تجليات لهذا الوجود، أو كما يسميه دلتاي (العقل الموضوعي)، وتتجسد في جملة من المستويات: اللغة والعادات، والمجتمع، والعائلة، والدولة والقانون، وكافة أشكال الحياة، بما في ذلك الدين والفلسفة والفن كما بيّن كتاب «الحقيقة والمنهج» لهانز جورج غادامير.
وهكذا يمكن أن ننطلق من تحديد مفهومنا لرؤية العالم من هذا المبدأ، حيث يرى دلتاي أن فهم الإنسان ينهض على الوعي، وليس التأملية الفلسفية وحسب، فالوعي يمكن أن يدرك جميع ظواهر العالم الإنساني كما يوضح مؤلف كتاب «الحقيقة والمنهج»، إذ يخلص إلى أنماط من رؤية العالم التي تنهض على التأويل، وهذا يقودنا بصورة أو بأخرى إلى الأدب الذي تكمن قيمته الجوهرية من خلال محاولته تقديم تصورات متعددة لهذا العالم، وهي يجب ألا تخضع لمنظور متعال منعزل، فالوعي التاريخي ينهض على فعل إدراك كوننا كائنات تاريخية في الأساس. إن مبدأ هذا التوجه للاقتراب من رؤية العالم لا ينهض على محاولة تأملات مستمرة لبعض الوقائع الفلسفية وجدليّتها بين العلم والميتافيزيقا، فنحن نستعير هذا المفهوم كي نؤكد على دور الأدب في تفسير العالم، وتقديم خلاصات أو استنتاجات يمكن أن تجعل من الأدب فعلا للإدراك والوعي للكينونة التي ننتمي إليها.
إن مقاربتنا في هذا السياق تنهض على قراءة بعض الوحدات الصغيرة بغية الوصول إلى الرؤية الكلية، ومن هنا فإن الأدب يعكس تصوراتنا عن العالم، وعن ذواتنا، وهي غالبا ما تقع في المجال المعرفي ضمن مفهومين: أولا الإدراك القائم على المعرفة الواقعية العلمية، في حين الثاني يتحدد بالمبني على تصورات فوق طبيعية أو ميتافزيقية، وبناء عليه، فإن بعض الأفكار والمفاهيم ما هي إلا نمط من أنماط رؤية ما نحن عليه، بما في ذلك (الآخر)، فضلاً عن الوجود بكافة تعقيداته كما تتجلى وقائعه في الأدب أو الرواية أو غير ذلك من الفنون والآداب.
يمكن القول بأن رؤية العالم هي الإمكانات الرمزية التي تعمل في شكل متعاضد لتكوين صورة الأنا ـ الأنوات ووعيها في مجال تاريخي، أو إنها تلك الروح التي تسكن الأشياء والعالم، والتي تبدو أقرب إلى نموذجي يتحدد بالروح الكلية لمجموعة ما، أو شعب.
ولعل في تنظيرات لوسيان غولدمان موجهات لفهم المقصود برؤية العالم، ولا سيما تأويل هذا العالم بشمولية، حيث بدأت تتسرب هذه الأفكار إلى الفرنسيين في مجال الأدب، فرؤية العالم كانت على الدوام مفهوماً شديد التجذر في فكر لوسيان غوبدمان، ولا سيما بأثر من دلتاي، وغيره، فعمليات التعبير – على الرغم من جزئيتها ومحدوديتها- غير أنها تعبر في شكل من أشكال تجليها عن جزء من تصور كلي وشمولي للعالم، وهي تقع بين الزمان والمكان، ولكنها تبدو لنا في وضع خفي، أو أنها تعمل من الخلف.
يمكن القول بأن رؤية العالم هي الإمكانات الرمزية التي تعمل في شكل متعاضد لتكوين صورة الأنا ـ الأنوات ووعيها في مجال تاريخي، أو إنها تلك الروح التي تسكن الأشياء والعالم، والتي تبدو أقرب إلى نموذجي يتحدد بالروح الكلية لمجموعة ما، أو شعب. يمكن القول بأنها عملية البحث في ذلك الوعي الكامن للروح التاريخية التي تكمن في الثقافة، بما في ذلك الثقافة العربية على اختلاف تنوعها في الزمن والمكان، وبهذا فإننا نكاد نقترب من بنية خفية تكمن في التمثلات السردية، وهكذا فلا جرم أننا وقعنا في مجال نسقي بنيوي خارجي عابر للثقافات بغية تحقيق فهم عميق لوعينا المتجلي في الأدب على مدار عقود طويلة، إذ حاول الأدب أن يجترح تصوراً كلياً يحجب خلفه نسقا ما للوعي العربي الذي بدا شديد القلق والارتباك. إن الانغلاق في المفهوم القبلي للأفكار من قبل إيمانويل كانط، كان له الأثر الكبير على تكوين هذه الرؤية التي تطورت في ما بعد على يد كل من دلتاي وغولدمان وكارل ياسبرز، وبعض المثقفين الأمريكيين في فترة لاحقة، فالمنظور العلوي للعالم يتقصّد الكشف عن إدراك الواقع لا من وجهة نظر علمية – كما وضحنا سابقاً- إنما هي تنهض على ذلك المجرد، وبعبارة أخرى؛ تلك القواعد التي تهدف إلى الكشف عن تفسير النتاجات البشرية، ومعناها الكامن من أجل إثبات وحدة عقلية جمعية، أو تميز مجموعة ما كما يذكر هنلديس في كتابه «البنيوية التكوينية». ربما ينتج هذا شدة التباين في تحديد مفهوم النظرة إلى العالم تبعاً لدمجها في الأيديولوجيا (الفكر الماركسي) أو (النفسي)، وغير ذلك من حيث التركيز على الأنا، أو من حيث الفعل الإجرائي المتصل بالجانب المعرفي، الذي لا يشكل لنا مثار اهتمام، إنما ما يعنينا في هذه المجال القدرة على استبصار مواطن الخلل التي عصفت بوجودنا الكلي، ولا سيما أننا نمارس وهم الوجود، في حين بدأنا في وعينا نقترب من التقدم، في حين أننا نهوي بكل قوة إلى القاع، وعلى الأدب في هذه المرحلة أن يعي دوره ضمن لعبة السرد وغيرها، على أن يقدم التصورات الذهنية والإمتاعية للوجود المضطرب، فاختلاف المعيارية والأدوات للرؤية ينبثق تبعاً للتصورين الديني أو العلمي اللذين يدفعان لتبني منظورات محددة تطال كافة مستويات الوجود، وما المنهجيات التي نقارب فيها الموجود سوى محاولات ادعاء بأنها من تقدم الصورة المثلى لفهم العالم، وهذا يشمل كافة المستويات بما في ذلك الأدب، وعلى الأدب والرواية أيضاً أن تتخذ تصورها انطلاقاً مما تؤمن به من محاولات لتفسير الوجود، وهكذا تتقدم التصورات القيمية لتقديم إجابات عن كثير من الأسئلة التي تؤرق وجود الإنسان في أزمته، وأي خطاب/ كتابة/ كتاب/ كاتب لا ينطلق من أزمة فإنه لن يتمكن من تقديم جزء من تصوره الخاص بالعالم.
٭ كاتب أردني فلسطيني
شكرا لك على هذا المقال القيم؛ نحن بحاجة ماسة الى جهود المبدعين من أمثالك.