منذ بدأت الكتابة وجدت في نفسي ميلا إلى الهامش دائما، ورأيت الكثيرين من الفنانين والكتاب يميلون إلى ذلك. لا تشمل كلمة الفنانين هنا كتّاب المسرح أو السينما أو المغنين، رغم أنهم في قلب الفنون، لكن تعني الفنانين التشكيليين بصفة خاصة، فهم الأقرب إلى الأدباء، باعتبار أن أنجازاتهم تنسب إليهم وحدهم.
تكون قضايا كاتب الرواية أو الشاعر مع كيف يكتب، وقدراته على تطويع اللغة لحالات شخوصه ومكانها وزمانها، وتكون قضية الفنان التشكيلي هي كيف يطوع مادته، التي يستخدمها لتعبر عن معاني وراء ما يبدو في لوحته. في كل الأحوال هو الفاعل الوحيد على عكس المطرب، الذي يحتاج إلى كلمات الأغنية من شاعر إلى موسيقار ليقوم بتلحينها. الأمر نفسه في حالة السيناريست، أو الكاتب للسينما والمسلسلات، فهو في حاجة إلى مخرج وممثلين ومصور ومصمم ديكورات، وحتى إلى الماكيير منفذ ماكياج الأبطال. في النهاية يصبح العمل في الغناء والسينما جماعيا. لن أقول يحتاج إلى منتج سينمائي، لأن المنتج هنا مثل الناشر فكل مهنة تحتاج إلى راع يخرج بها إلى السوق.
في بلاد مثل بلادنا، وفي ما يخص الأدباء يجدون أن منافذ توزيعهم أو تحققهم تسيطر عليها الحكومات، أعني بها الصحف والمجلات، لذلك يختار البعض أعمالا قريبة من هذه المنافذ، وعلى رأسها الصحافة، لكنني آمنت منذ بداية إقبالي على الإبداع القصصي أن البعد عن هذا المجال أفضل. رأيت أن الصحافة ستجعلني رهن الأوامر والتعليمات. لن أقول إن لغة الصحافة تأخذ المبدع إلى أسفل كما يقال، ذلك أمر يعود إلى الموهبة لا يفسده العمل الصحافي، لكن إيقاع الصحافة سريع، ومن ثم فيها ينشغل الكاتب بالكثير من الأحداث، وهكذا تكون الكتابة اضطرارية. العمل في الصحافة فيه من الاضطرار أكثر من الحرية. مواعيد للعمل ومواعيد لتغطية الأحداث، والإسراع فيها والسبق إليها، بينما الأديب، لن يخرب العالم، إذا تأخر في إنهاء روايته، أو قصيدته، وكذلك الفنان التشكيلي مع لوحته. وقد يجد في سهرة مع أصحابه أو موعدا غراميا ما يشبعه أكثر من إنهاء ما يكتبه. من يدخل من باب الصحافة، ربما يشتهر بسرعة، ورغم ذلك فالكثيرون يبتعدون عن العمل الصحافي. كنت واحدا منهم، رفضت العمل بالصحافة في بداية حياتي، رغم أنه كان أمرا سهلا جدا ذلك الوقت، وليس كما هو الآن، حيث كثير من الشباب يقضون سنوات حتى يتم تعيينهم بشكل رسمي، فيكون لهم تأمين اجتماعي وصحي يفوزون به بعضوية نقابة الصحافيين. كتبت مئات المقالات في الصحف، لكن دون العمل فيها، وتفرغت للرواية والقصة. اخترت عملا لا يكلفني كثيرا من الوقت، وأتغيب عنه حين أريد، حتى أعطي الوقت للقراءة والإبداع. وحين جاءتني المناصب الثقافية في ما بعد تركتها أسرع من خروج النهار.
في عالمنا العربي ساعد الوجود الصحافي، أو الوجود المؤسسي في ترويج الكاتب، لكن أيضا يروج الكاتب، إذا لم يتعجل الرواج وحرص على الكتابة. الهامش في الحقيقة بديل عن الدنيا كلها. الهامش هو متن الحرية، لا يستطيع أحد إفساده على صاحبه. الصحافة في البلدان غير الديمقراطية تكون تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية. وقد يجد البعض في الاقتراب منها فرصة للتقدم في مناصبه، لكن فرصة الهامش ومن فيه أكثر للتقدم في ما يكتبون وتطويره. حين تقرأ رواية لا تهتم ماذا يعمل صاحبها، وكذلك حين تشاهد معرضا فنيا لفنان، لكن تهتم بما هو أمامك، أو بين يديك، لكن الهامش يحتاج إلى قوة إرادة حتى لا تتركه وتنطلق في المتن الحكومي، أو المؤسسي.
في عالمنا العربي ساعد الوجود الصحافي، أو الوجود المؤسسي في ترويج الكاتب، لكن أيضا يروج الكاتب، إذا لم يتعجل الرواج وحرص على الكتابة. الهامش في الحقيقة بديل عن الدنيا كلها. الهامش هو متن الحرية، لا يستطيع أحد إفساده على صاحبه.
كثيرون من الأدباء الموهوبين يفعلون ذلك. رأيت من بينهم اسماء مثل نجيب سرور وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله، وصنع الله إبراهيم ومحمد البساطي، ومن أجيال تالية مثل عبد المنعم رمضان. نجيب محفوظ ظل سنوات طويلة يكتب في الظل، بينما يوسف السباعي رجل الدولة يحتل المقدمة، لكن نجيب محفوظ فاز ولو متاخرا جدا بالوجود الكاسح. نجيب محفوظ توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو/تموز 1952 حتى عام 1959، حين بدأ ينشر روايته «أولاد حارتنا» لكنه وجد طريقة أخرى للوجود، هي كتابة السيناريو، فكتب سيناريوهات قليلة لأفلام. وحكي الممثل فريد شوقي مرة أنهم حين ذهبوا إليه بمكافاة مالية عن سيناريو كتبه، اعتذر عن قبولها قائلا يكفي أني تعلمت منكم كتابة السيناريو، لكن ذلك كان زمنا آخر غير زماننا. كان القليل من العائد يكفي، وكان العلاج مثلا متوفرا على نفقة الدولة، دون أهمية لعمل أو قيمة المريض. الآن يموت حولنا كتاب أبدعوا كثيرا من الأعمال ويرتفع الصراخ من أجل علاجهم ولا نتيجة، حدث ذلك مع محمد عيد إبراهيم ورفعت سلام وسعيد الكفراوي والفنان التشكيلي مصطفى عبد الوهاب، وتقريبا في عام واحد هو العام الماضي.
لكن يظل للهامش المساحة الأكبر من الحرية، فحتى لو رفضت صحيفة نشر قصة للكاتب لأسباب رقابية، يستطيع أن ينشرها في بلد آخر. والذين يتصورون أنهم يمكن بقيودهم تحديد فضاء المبدع واهمون، لأن العالم أمام المبدع متسع فسيح الأرجاء، حتى لو كان يعيش في غرفة واحدة. وبعيدا عن قوة الدولة فبعض الكتاب حين يكون لهم وجود في المتن الثقافي يقفون في طريق غيرهم. هؤلاء لا تبقى منهم غير الذكري السيئة، لأن من اختار الهامش تتسع الدنيا أمامه. المهم أن لا يضيّع وقته في الجدل معهم، فطريق الوجود الأدبي ليس ما يتحكمون فيه فقط، بل هو أكبر وأوسع. يزيد من اتساعه أن الهامش يعطي صاحبه الوقت للتجديد في ما يكتب والجرأة على ما لا يتجرأ عليه من هم في المتن. متن الدول المركزية التي تعد الأنفاس على البشر. في الحياة الثقافية مؤامرات يعرفها كل من عاينها، أو تعرض لها، لكن فيها مغامرات يعرفها صاحبها حين يستغني عن المتن، ويتفرغ لما يبدع. أعني مغامرات في الكتابة والتجديد، والذين يحاصرون الكاتب أغبياء فهم يعطونه الفرصة أكبر للحياة في الهامش، فينتج بحرية أكبر ما يريدن لذلك كثيرا ما أقول لكاتب شاب يشكو لي مما يتعرض له من آخرين يحاصرونه، بينما يغدقون على أصدقائهم أو شلتهم من الحسنات، إن مجالك الحيوي ليس هم، لكنه القارئ الغريب الذي لا تعرفه. أصبر واستمر وستجد أعمالك تقفز إلى متن الحياة الثقافية، بينما انشغالهم بالمتن والتحقق فيه، سيجعلهم يكررون ما يكتبون، ويبتعد عنهم بساط الفن أو الإبداع. لا تنشغل بقضايا الحياة الثقافية، لأنها في بلادنا نادرا ما تكون حول الفكر، لكن حول المكاسب الشخصية التي قد تكون خافية. وكثيرا ما يكون وراءها أيضا سوء الفهم. قد يقول لي أحد كيف وكثيرون في تاريخنا الثقافي والأدبي كانوا أعلاما في الصحافة والسياسة، مثل عباس العقاد وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم، أقول له كانت هناك أمة أسرع في طريق الليبرالية، فكان الكتاب يمضون بحرية في كل الطرق، وظل هذا بعد 1952 بقوة الدفع الذاتي، حتى اختفى ذلك الجيل.
لم تكن الصحف ولا المجلات تصدرها الحكومات، فكانت الصحف هي التي تسعى وراء الكتّاب، بل كثيرا ما كان الكتّاب وراء صدور المجلات، وهم أصحابها. الهامش ليس وضعا اجتماعيا أبدا مهما كانت الحياة الاجتماعية فقيرة، الهامش هو فضاء مفتوح للحرية مهما كانت الطرق مغلقة.
روائي مصري