هل بدأ الانقسام في أمريكا مع الرئيس ترامب، دعونا لا نحاول أن نعطي الرجل أكبر من حجمه، ففي الحقيقة الانقسام قائم قبل أن يعلن ترامب ترشحه لانتخابات 2016. في بداية الألفية الجديدة تعززت الأفلام الأمريكية، التي تقدم حياة السود حصرًا، وكأنهم منفصلون تمامًا وجوهريًا عن بقية الأمريكيين، وكان ذلك يمثل رد الفعل على سنوات طويلة من التجاهل في الدراما الاجتماعية الأمريكية، وبالاقتراب أكثر من الصورة، فإن الأمر يختلف عن موسيقى الجاز التي عبرت عن الأمريكيين من أصول افريقية في ولايات الجنوب، التي كانت إعلانًا عن الوجود، وفعل مقاومة، لأن الموجة الجديدة في حد ذاتها تظهر مجتمعًا منفصلًا ومنكفئًا على ذاته، مجتمعًا يصر على بناء جديد، وكانت ذروة التعبير عن وجوده مع انتخاب الرئيس باراك أوباما رئيسًا سنة 2008، وهو ليس أمريكيًا افريقيًا نموذجيًا، إذ لا ينتمي إلى أسر حقول القطن والاضطهاد القديم، فوالده مهاجر كيني حديث نسبيًا، وأمه أمريكية بيضاء، أي أنه لا يعبر عن المأساة السوداء بكامل تفاصيلها.
لحظة أوباما أشعرت الأمريكيين البيض، خاصة المتعصبين بالخطر، فالرئيس الصاعد كان تعبيرًا عن المهاجرين الجدد، وتوسعه في الخدمات مثل الرعاية الصحية يجعل الولايات المتحدة تتكبد المزيد من المال، الذي يعتقد البيض أنهم يدفعونه لتمويل المهاجرين، وتمكينهم من الحياة بينهم، وإذا كانت الأجيال الأولى من المهاجرين، لا تستطيع أن تنافس البيض في الوظائف والتأثير، فالأجيال التالية من المولودين في الولايات المتحدة، أو القادمين في سن مبكرة، يمكنهم أن يفعلوا ذلك، والصومالية المولودة في مقديشو إلهان عمر، بوصولها إلى عضوية مجلس النواب نموذج واضح لذلك، وهذه النائبة مثلت تحديدًا الاستفزاز الأكبر لترامب، فهو لا يراها في أفضل الأحوال سوى عاملة نظافة في أحد فنادقه، فكيف تصبح مشرعًا يمكنه أن يعترض على توجهات الرئيس وقراراته.
هذه المشاعر كانت تحضر بشكل أو بآخر لدى آلاف الأمريكيين، الذين حاصروا مبنى الكونغرس، وتمكنوا من اقتحامه في مشهد رعب، كان مكانه أفلام المستقبل التي تتوقع انهيار الولايات المتحدة، وكان معظم الناس يتعاملون معها على أنها فانتازيا خالصة، ولكنها حدثت، وقدرة المؤسسة الأمريكية العميقة على استيعابها بالأمس، بعد اشتباكات محدودة ستبقى موضعًا للتساؤل قبل الجولات المقبلة.
ترامب يعتبر نفسه ناجحًا في أمريكا التي تخصه، وهي التي بدأت بتجاهل أمريكا الأخرى السوداء واللاتينية، وأي نسخ أخرى
نعم توجد جولات مقبلة، والعنف الذي شهدته العاصمة سيعتبره الأمريكيون البيض يومًا ملهمًا وسيبنون عليه، ربما بطريقة تشبه ما حدث مع أندية الشاي التي كانت بداية التمرد على السلطة البريطانية، على الولايات الأمريكية. ستختمر الحالة الترامبية التي كانت مجرد حالة من الشكوى والغضب، والرغبة في التنمر، لتصبح تيارًا سياسيًا سيجد بين وقت وآخر قادمين جدد من الحزب الجمهوري، الذي يتراجع مع الفشل المتواصل الذي يلحق بنموذج الليبرالية الجديدة، وستولد أمريكا الفاشية تكساس ونورث داكوتا وكنساس ومونتانا وألاباما. والأمريكيون البيض الذين اعتبروا جوزيف سميث نبيًا وأسسوا ديانة المورمون، التي تعبر عن قابلية الأمريكيين للوهم بكل سذاجة، ربما سيجدون في ترامب نبيهم الجديد، وهو ما يحاول أن يفعله الرئيس، وعلى الأغلب بصورة غير واعية عندما خرج ليتحدث لهم مطالبًا بالسلمية والتهدئة، في رداء من المظلومية التي يدعي أنها لحقت به.
ترامب يعتبر نفسه ناجحًا في أمريكا التي تخصه، وهي التي بدأت بتجاهل أمريكا الأخرى السوداء واللاتينية، وأي نسخ أخرى، ولكن التجاهل ليس قابلًا للاستمرار، والصدام يبدو حتميًا، أو هو المنطق الذي يفضله التاريخ، فما الذي سيحدث، أو يمكن أن يحدث إن لم ينجح الأمريكيون في تداركه. كما استوعبت المؤسسة العميقة في الولايات المتحدة صدمة الجلسة المشتركة للنواب والكونغرس للتصديق على فوز جو بايدن، فإن طاقاتها يمكن أن تستوعب تمرير السنوات المقبلة من رئاسته، إن لم تحدث مفاجآت في منتصفها مثل، وفاته أو عجزه عن ممارسة دوره لتتولى مكانه كامالا هاريس الرئاسة، ولكن ما ستعجز عنه المؤسسات المختلفة، هو التفاعلات في المدن الصغيرة والولايات الجمهورية الميول، ذات الأغلبية البيضاء، خصوصًا أن الفوضى الجمهورية في الولايات، والجدل حول إجراءاتها في الانتخابات، أظهر الولايات المتحدة مجموعةً من الدول التي ترتبط فيدراليًا، وكأن الفيدرالية سلطة قهرية تريد أن توجهها، وهو ما سيجعل الغضب يتصاعد داخل بعض الولايات، وربما نشهد حديثًا عن رغبة في الانفصال عن الاتحاد الأمريكي، ومغامرات قانونية مختلفة، ومماحكات غير متوقعة.
ليلة ستبقى طويلًا في ذاكرة الأمريكيين، هذا إن كان الأمريكيون سيمتلكون منذ اليوم ذاكرة جمعية، فأمريكا المنقسمة هي التي ولدت رسميًا في الأربعاء الأسود، وكانت قبل ذلك جنينًا، وستحتاج بعض الوقت لتتعلم المشي، ثم الركض، أين؟
بدأت أمريكا تاريخها بالركض في المساحات الشاسعة المفتوحة أمام المستوطنين القادمين من أوروبا، من أجل فرض الأمر الواقع على الأرض بموازاة اجتثاث السكان الأصليين، وكان مزيدًا من الركض يعني المزيد من الثروة، أمام اليوم، فإن العودة إلى ثقافة الركض واحتلال المساحات، كما كان المشهد الذي يقدم أحد مقتحمي الكونغرس يحتل مكتب نانسي بيلوسي رئيسة الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي، فأين سيوصلهم الركض هذه المرة؟ ويبقى أنه من الصعب أن يقضوا على أمريكا الأخرى (السوداء أو اللاتينية) كما فعلوا سابقًا مع السكان الأصليين.
كاتب أردني
ماوقع في أمريكا مجرد تمثيلية سمح بها لإضافة بعض النكهة الدرامية والتشويقية على ولاية ترامب اليتيمة، لتكون بعد ذلك مصدرا للإبداع بالنسبة للكتاب وصناع السينما وللإعلام بكل أنواعه، فأمريكا تستغل أي حدث لجعله وسيلة لدر المال حتى الحروب التي قامت بها…