الأرجنتيني إيرنيستو ساباتو الذي أنقذه الأدب من الانتحار

حجم الخط
0

غرناطة ـ من محمّد محمّد الخطابي: فى 30 نيسان/ابريل الجاري ( 2013) تحلّ الذكرى الثانية لرحيل الكاتب الأرجنتيني الكبير ‘إيرنيستو ساباتو’ (توفّي عام 2011عن سنّ تناهز 99 عاما)، كان ساباتو يعتبر من أكبر الكتّاب الأرجنتينييّن المعاصرين.
وهو صاحب الأعمال الرّوائية ذائعة الصّيت في بلده الأرجنتين وفي أمريكا اللاتينية وفي العالم الناطق باللغة الإسبانية مثل: ‘عن الأبطال والقبور’، و’النّفق’، و’ملاك الظلام’، و’أبادّون المهلك’ وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها عصره بكلّ ما تميّزت به بلاده الأرجنتين بالذات من فتن وقلاقل واضطرابات، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية العسكرية فيها، حيث ناءت كاهله مهمّة شاقة عانى منها الكثير كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حكم الرئيس الأرجنتيني’ راؤول ألفونسين’.
هذا الكاتب كانت له قصّة طريفة مع الموت وهو لماّ يزل في شرخ الشباب وعنفوانه، عندما اسودّت الدنيا في عينيه في غربته بفرنسا بعيدا عن بلده حيث أشار في مختلف المناسبات ضمن أحاديث مختلفة أجريت معه أنّ الحياة قصيرة جدّا على الرّغم من عمره المديد، وأنّ مهنة العيش صعبة وشاقة للغاية، ذلك أنّه عندما يبلغ الإنسان النضج ويبدأ في إدراك خبايا الأمور والتعمق فيها يداهمه المرض، ويهدّه الوهن والعياء ثمّ أخيرا يأتي الموت ويباغته، وقال إنّه كان ينبغي أن يعيش الإنسان على الأقل 800 سنة ..!. ويمكن أن يعتبر هذا مبالغة، إلاّ أنه أردف قائلا: ‘لا غرو فأنا أحبّ المبالغة في كلّ شيء’!. وقال ساباتو قبيل وفاته: ‘إنّه وقد شارف المائة من عمره ما زال يتعلّم أصول العيش، وفنّ الحياة التي تحفل بالآلام والأحزان، وحياة الكاتب أو الفنّان أكثر خطرا لحساسيته المفرطة ،وأنّ المرء في بعض الأحيان يتمنّى الموت ويشعر بميل له لجعل حدّ لحياته، وهذا ما حدث له عندما كان في مقتبل العمر ،وعليه فإنّ هذا المشهد كثيرا ما يتكرّر في كتاباته، إلاّ أنّ أبطاله على النقيض من ذلك ينتهون دائما بمعانقة الحياة، وإقصاء التهلكة عنهم، ولهذا فليس هناك أيّ دين يبيح الانتحار بل جميع الأديان تحرّمه، وقال ساباتو :’ إنّ الأدب قد أنقذه من موت محقق ،وهو يشير في هذا القبيل أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد أثقلت كاهله، وقصمت ظهره، حيث كان يعيش أقسى وأعتى وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة مظلمة تنفتح تحت قدميه روحيا وماديا، عندئذ فكّر في أن يلقي بنفسه في نهر ‘السّين’ ،إلاّ أنّه حدث: ‘أنني سرقت كتابا من احدى المكتبات وهي مكتبة ‘جيلبير جون’ وذهبت إلي إحدى المقاهي في الحيّ اللاتيني وفتحت الكتاب في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلا ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه بقوّة وبسط أمامي مباهج الحياة وفضيلة التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس ،كتبت إلى أمّي فى الأرجنتين وطلبت منها بأن ترسل لي بعض النقود لأعود إلى بلدي حيث التحقت بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم ،وبعد أن حصلت على الدكتوراة في هذا الحقل عدت من جديد إلى باريس، وأقنعتني إتصالاتي وصداقاتي مع الرسّامين السّورياليين بأن أهجر عالم الرياضيات والعلوم من جديد وأن أرتمي في أحضان الأدب والابداع’.
ويشير ‘ساباتو’ إلى أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم ،الى فلسفته ‘الفوضوية’ وكان ‘ساباتو’يعتقد انّنا نعيش نهاية عهد وبداية عهد آخر، وأنّ العهود الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار والمفاجآت، إذ أنه في هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهر الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فانّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب أفكار الماضي واستخراج ما هو صالح منها لها .
وعن وظيفة الفنّ كان يقول:إنه يصلح لإنقاذ صانعه ومتلقّيه من الانهيار، بل إنه يساعدنا على مواجهة بعض اللحظات الحالكة والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة والحيرة والقلق والارتياب حيال التساؤلات والألغاز الكبرى للوجود التي تطرح على المرء في لحظات مّا من عمره.
وأشار ساباتو أنّ الإغريق كانوا خير مربّين لشعوبهم علي المستويين التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة ‘بيريّوس’ الذين لم يكونوا متعلمين بل أمييّن مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكزوفانيس وسواهم، وكانوا يبكون ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم علي إنقاذ ذواتهم وأنفسهم ممّا كان يجعلهم أكثر سعادة واستعدادا لمواصلة العيش وفهم الحياة بشكل أحسن، أيّ فهم واستيعاب الجوانب الايجابية والعناصر الصالحة فيها.
ويرى ‘ساباتو’ أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضا، خاصّة فيما يتعلق بالتراجيديا، ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، إلاّ أنّ هذا الجمال ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكورا في إناء، أو رسما على فخار بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الّرّوح أكثر ممّا يخاطب العين.ويختم الكاتب الرّاحل حديثه بالقول’إنّ مثل هذه الأحاديث تمليها عليه السّنون، فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعد أن خبا ضياء عينيه، و قلّ نظره حتى كاد يفقده ،وبعد أن توقف عن القيام بأي نشاط عضوي سوى المشي بتؤدة وتأنّ بضع خطوات في باحة بيته.
سبق لايرنيستو ساباتو أن حصل عام 1984 على جائزة ‘سيرفانتيس’ التي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية الهامة الأخرى داخل بلاده وخارجها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية