مجددا انزلق الإعلام الرسمي الأردني بالاختبار وسقطت الرواية الحكومية والرسمية ليس بسبب ضعف مصداقيتها أو عدم وجود أذرع ومؤسسات إعلامية ولكن بسبب مؤشرات الخوف وهواجس القلق الناتجة عن إطلاق حرية الإعلام، بما في ذلك حرية المختصين على طاولة التحرير من محررين موثوقين في الإعلام الرسمي نفسه، حيث أبواب وفلاتر يتيمة هي بوابة النص الرسمي.
وحيث سلسلة طويلة من المحاذير ومقص الرقيب الذي يستوطن العقول فلا يسمح بعبور معلومة مفيدة ولا فكرة نبيلة، ويجتهد بالمقابل في فلترة حتى الإطار المهني وأحيانا الموقف الرسمي نفسه.
لا تنقص الإعلام الرسمي الكفاءات المهنية بل ينقصه السقف وحرية النشر والكتابة بدليل أن من يتخرج من أذرع الإعلام الرسمي الأردني ويتم تصدير خبرته إلى بلاد أخرى في الجوار أو في العالم يبدع ويتألق.
نعم نقولها بوضوح سقط الإعلام الرسمي في متابعة ما حصل ليلة 14 من الشهر الجاري حيث لا رواية قبل الحدث بخصوص ما يجري بخصوص سماء الأردن، ولا رواية للجمهور أثناء الحدث، ولا حكاية تروي للأردنيين بعد الحدث تملأ الفراغات أو تضع النقاط فوق الحروف، أو حتى تمتهن التسلل برواية رسمية عميقة مقنعة وذات مصداقية تمثل اختراقا من أي صنف.
فيما كانت سماء الأردنيين تعج بالطائرات المقاتلة والعمليات الحربية وتسقط الشظايا في الأحياء السكنية كان المواطن الأردني يتابع الحدث عبر قناة الجزيرة، وكانت الحكومة تنام ليلة كاملة مثيرة لكي تستيقظ في الصباح التالي على بيان لا يشفي الغليل ويعيد تكرار الكلاسيكيات ولا يوضح لا ما حصل ولا ما سيحصل لاحقا.
بامتياز وبإجماع حتى رجال الدولة سقط الإعلام الأردني بشقيه الرسمي والخاص في امتحان ليلة الأجسام الطائرة.
والواقع ان أذرع هذا الإعلام تواصل الانزلاق في كل الملفات بالمعنى المهني. لكن لا أحد في دوائر صناعة القرار يستدرك ويدرك بأن القصة أصبحت مناطة بالإعلام وأن الإعلام سلاح فتاك. والمخجل أكثر أن إعلام العدو الصهيوني كان يعرض التفاصيل طبعا بخبث ودهاء وانتهازية، وكان يؤسس للمفارقة التي تستمر دون معالجة حقيقية، فالمواطن الأردني استسلم لمدة أسبوع لإعلام ومنابر الإسرائيليين لكي يعرف ما الذي حصل في السماء ولماذا؟
مقص الرقيب الذي يستوطن العقول فلا يسمح بعبور معلومة مفيدة ولا فكرة نبيلة، ويجتهد بالمقابل في فلترة حتى الإطار المهني
لا يتعلق الأمر بمؤسسات إعلامية حريصة جدا على النص الوطني لدرجة لا تقل عن حرص كبار المسؤولين في الدولة. ولا يتعلق بضعف فني أو مهني، فالمهنيون الحقيقيون في الإعلام الرسمي يتعرضون للإقصاء والتهميش وحجم الآباء والمرجعيات كبير جدا، وكل أب يدعي الوصاية على الإعلام، يريد أن يفرض على الإعلاميين المحليين الحدث كما يراه وليس بالضرورة كما تراه الدولة.
مؤسف جدا أن الفضائيات التي أنفقت علها مئات الملايين من الدنانير باسم الدولة والخزينة، ينافسها بقوة على الخبر الوطني والمحلي نافذة تلفزيونية إلكترونية فقط.
مؤسف أيضا أن يضطر المواطن الأردني لقراءة ما يجري في بلاده عبر متابعة شاشة الفضائيات العبرية.
المخجل حقا ودوما أن ينتظر مواطن شغوف وقلق معلومة لها علاقة بشؤونه السيادية والوطنية من نص في الإعلام الإسرائيلي، غالبا ما يكون محرفا أو مدسوسا أو على الأقل يمثل وجهة نظر من تبناه.
عشرات اللجان شكلت للاستدراك ووضع استراتيجية وطنية للإعلام في الأردن، وعشرات الزملاء ومفكرو صناعة الإعلام بح صوتهم بوصفات واقتراحات، لكن التوصيات الوحيدة التي التزمت بها الحكومة بحرفية عالية هي تلك التشريعات المقيدة لحرية الإعلام أو التي تبالغ في فرض عقوبات باسم الجرائم الإلكترونية أو تلك الاستراتيجيات التي وضعت لفوترة منصات التواصل الاجتماعي.
الحكومة تتميز عندما يتعلق الأمر بجمع المال والعقوبات. لكنها تدخل في سبات ونوم عميق وصمت مطبق عندما يتعلق الأمر بشغف الأردنيين لفهم ما الذي تقرره حكومتهم ولماذا، والفهم الخاطئ لدور الإعلام أصبح استراتيجية عمل صلبة تحت عنوان تقسيم الإعلام إلى شريحتين، هما فقط مرعوب أو مركوب.
لا ينفع ذلك الأرض ولا يمكث في المناخ الوطني ويسحب من رصيد النظام مرة تلو الأخرى. ويعزز كل التناقضات كما يؤدي الى فصام في السردية الوطنية.
الإعلام أساسي جدا في المعادلة وصناعته تحتاج إما إلى أموال وهي غير متوفرة بالحالة الأردنية أو إلى تقنيات وأسقف وانسياب معلومات، وهي متاحة ومقدور عليها شريطة أن يخلي الهاجس الأمني ولو قليلا المساحة للأداء الإعلامي المحترف، وشريطة أن تؤمن الحكومة بعد الآن بأن حجب المعلومات عن المواطن أو تقديمها مفككة أو مضللة عوائده وكلفته أكثر بكثير من عرض الوقائع والحقائق.
تحلم المؤسسة الأردنية منذ سنوات، وأنا أشهد بذلك حلما اسمه النهضة في وسائل الإعلام الوطنية، لكن أشهد وغيري بأن الدولة لم تتقدم ولو خطوة واحدة بعد في المؤسسية والمنهجية والإقرار بالمشكلات في اتجاه ذلك الحلم.
الإعلام المهني هو المطلوب وليس المرعوب أو المركوب… نعم «هرمنا» ونحن ننتظر…. هرمنا ونحن نعاني من المركوب المرعوب وعلينا على الأقل «تجريب» العكس وإطلاق الطاقات.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»