عمان – «القدس العربي»: يبدو أن تقسيمات الدوائر الانتخابية التي صدرت لاحقاً لقانون الانتخاب الأردني الجديد تقدم “أفضلية ما” للحزب السياسي الأكثر جاهزية وخبرة وبدون قصد، أو به، من جهة من خطط ووضع خارطة تلك التقسيمات.
فكرة تلك التقسيمات الانتخابية الإدارية كانت ببساطة إعادة رسم ملامح وحدود المناطق الجغرافية للدوائر الانتخابية في المملكة بوضعها الجديد وعلى أساس صيغة تضمن بقاء مناطق الثقل العشائري والمناطقي معزولة إلى حد ما وبقدر الإمكان عن مناطق الأصوات المسيسة مع تمكين المناطق عشائرية الاتجاه والتصويت من اختيار حزبيين، لكن أقرب لتصنيفات الولاء السياسي وليس المعارضة.
في ظل هذه القراءة، يمكن للدوائر الانتخابية بحلتها الجديدة بناء تلك الفرضية الرسمية البيروقراطية التي تسعى لبقاء واستمرار ثقل الصوت العشائري موجوداً بقوة في سلطة التشريعية مستقبلاً مع خلطها هنا وهناك بالدوائر الفرعية بتمثيل أحزاب الوسط على أن تترك الأصوات المسيسة مغلقة على نفسها وفيها قدر من التنافس. الهدف في الفرضية تكتيكي هنا؛ حصر مرشحي الحركة الإسلامية وتقليل فرص مقاعدهم البرلمانية بعيداً عن القوائم الحزبية الوطنية.
المثير هنا أن ما خططت له تلك التقسيمات قد لا يحقق النتائج المباشرة أو الأهداف المرسومة؛ لأن التمثيل الحزبي المعارض سواء عبر الإسلاميين أو غيرهم، يمكنه التسلل إلى قوائم الترشيح الفرعية في مناطق النقاء للصوت العشائري، لكن العكس ليس صحيحاً.
تلك أفضلية من المرونة في مساحة التكتيك الميداني يمكن لإسلاميين أو لأحزاب المعارضة الاستثمار فيها بذكاء، خصوصاً أن اتجاه المناطق جميعها اليوم يؤشر مبكراً على أن الرغبة الجامحة في الالتحاق بحافلة التصويت على أساس حزبي يضرب في عمق المجتمع والنشطاء فكرة الاجماع العشائري الذي ستصبح هوامش المناورة أمامه أضيق بكثير لصالح مرشحين من طراز خاص يجمعون البعدين العشائري والحزبي أيضاً، ليس لضمان تمثيل العشيرة أو المنطقة في انتخابات 2024 حصراً إن لم تؤجل، ولكن لضمان التمثيل والحضور في الانتخابات التي تليها عام 2028 لأن حصة الأحزاب ستزحف من 25 % إلى 50 % وقتها.
تلك التقسيمات الانتخابية لا تخلو من رسائل سياسية مقصودة، برأي السياسي الإسلامي الدكتور رامي العياصرة، الذي يشير أيضاً إلى أن الأهداف المفترضة والموضوعة ليس بالضرورة أن تتحقق، مع أن رهان السلطات هو على عملية مزج بين التعبيرات الحزبية الوسطية والموالية الجديدة وبين نفوذ تأثير الصوت العشائري أو المناطقي.
وتلك مجازفة في الترتيبات والتحضيرات قد تؤسس لهوامش أفضلية تخص الأحزاب المتمرسة فقط، والتي تستطيع التسلل في بعض الأحيان حتى عبر الثقل العشائري، فيما تترك التقسيمات ذاتها بعض الدوائر نقية تماماً للصوت المسيس، بمعنى مساحة خاصة بالقادرين سياسياً على طرح برنامج وإحضار الناخبين وبدون شغب أو منافسة من مرشحي التيارات الكلاسيكية.
عملياً، لا أحد يعلم ما الذي دار في ذهن دوائر القرار عندما برز التصميم المعلن الجديد جغرافياً للمناطق والدوائر الانتخابية، لكن عندما يتعلق الأمر بالأحزاب المتمرسة حصراً والقادرة على المزج والتسلل هنا وهناك، تتحول الأفضلية التكتيكية حصراً إلى حزب جبهة العمل الإسلامي المعارض، بالرغم من كل مهرجانات التصفيق المناطقية لأحزاب الوسط الجديدة.
وقد التقط الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الشيخ مراد العضايلة، في ندوة نقاش عامة، ما هو جوهري في هذه المفارقة رداً على ناشط يساري وقومي اتهم الإسلاميين بالترويج للعشائرية، فما كان من العضايلة إلا أن رد عليه بعبارة تقول “إن الحركة الإسلامية الأردنية جزء من النسيج الاجتماعي”، وطبعاً موجودة في قلوب وبيوت الأردنيين وعشائرهم، وإن كان مرشحوها للبرلمان ونوابها لم يعملوا طوال 30 عاماً انطلاقاً من التمثيل العشائري أو المناطقي.
آخر النهار أو في الحلقة الأخيرة، فمن يترشح باسم التيار الإسلامي هم أبناء عشائر، والفارق بينهم وبين غيرهم أن خزان التيار الإسلامي التصويتي يأتي بالعادة من كل المكونات الاجتماعية، ويستقطب جزئياً في الصوت العشائري كما نشأ وترعرع في الصوت السياسي.
ويعني ذلك أن امتيازاً زرع بسبب أهداف غير واضحة أو مستعجلة لتقسيمات الدوائر الانتخابية، كما يعني -وهذا الأهم سياسياً- أن الذهنية البيروقراطية التي تدير مشروع تحزيب المجتمع وتحديث المنظومة السياسية من أجل المستقبل لا تزال تتحرك وتتحرى ضمن معطيات بعض الهواجس القديمة، بمعنى أن تلك الذهنية تريد الحفاظ على الثقل العشائري في سلطة التشريع أولاً، ثم يرتدي لاحقاً تمثيل ذلك الثقل ثوب أحزاب وطنية ووسطية مأمونة الجانب ومسيطر عليها خلافاً طبعاً للهاجس الأهم، وهو تحجيم الإسلاميين وحصر عدد مقاعدهم قدر الإمكان. ذلك، بكل حال، يعبر عن نظرية في القراءة والتحليل لخارطة التقسيمات الانتخابية المعلنة، لكن النتائج مفتوحة الاحتمالات.
وما سبق يبقى مجرد قراءة قد لا تكون دقيقة أو إلزامية، فيما مثل هذه القراءة وفي حال إضافتها لعنصر آخر مهم قبل عام من انتخابات موعودة، وهو تعثر وعدم جاهزية أحزاب المنظومة الجديدة، تصبح الخلطة مواتية لتبرير ما يطرح اليوم تحت عنوان سيناريو تأجيل الانتخابات. يخطط الإسلاميون من جانبهم لجرعة تكتيكية متقدمة تستثمر في كل ثغرات واحتياجات النظام الانتخابي.
وليس سراً أنهم الأكثر مهنية واحترافاً في هذا السياق، وإن كان الأمين العام لحزب إرادة الوسطي نضال البطاينة، قد قال أمام “القدس العربي” سابقاً إن الوطن للجميع، وإن أي لون سياسي لم يعد وحيداً في الساحة اليوم. ولعل تلك الأفضلية المفترضة هي التي دفعت بعض زعامات التيار الإسلامي لجرعات متقدمة من الحماسة، وبأكثر من صيغة ولهجة أثناء الانتظار على رصيف الانتخابات المقبلة.