عمان ـ «القدس العربي»: الاستعمال السياسي لكن بأثر رجعي ومخادع هو أحد أكبر المحاذير التي رافقت مسيرة القانون الأخير للجرائم الإلكترونية في حال تطبيقه في الأردن.
واستعمال نصوص القانون المثيرة للجدل في ملاحقة ومتابعة وأحياناً «اصطياد» معارضين أو ناقدين سياسيين هو المطب الذي يعيد أو سيعيد ملف الحريات العامة في الأردن إلى مستوى أقل بكثير من مسار تحديث المنظومتين السياسية والاقتصادية.
وما يتردد ـ لكنه غير مؤكد بعد ـ أن بند «أخبار كاذبة» الوارد في نصوص القانون سيئ السمعة والصيت هو الذي «قد يعتمد» في ملاحقة شخصية نقابية ووطنية بارزة في عمان مثل المهندس ميسرة ملص، الذي أوقفته السلطات الأمنية منذ 5 أيام دون الإفصاح عن تهمته، مع أن الملتقى الشعبي لدعم غزة والذي يعتبر ملص من أركانه، دعا مرتين للأفراج عنه.
ملص شخصية بارزة جداً في العمل النقابي والسياسي الأردني، واعتقاله حصل لسبب غامض بداية الأسبوع، فيما كانت تندلع أزمة النقاش بعنوان «الحراك الشعبي» المناصر لقطاع غزة. ورغم أن الانطباع الأولي أشار إلى أن توقيف ملص واعتقاله بصورة علنية أقرب لرسالة لها علاقة بالحراك وتحريكه، بمعنى التحريض، لكن المعلومات البسيطة التي توفرت خلال يومين ماضيين لنقابة المهندسين هي تلك التي تشير إلى أن الاعتقال له علاقة بـ «منشور إلكتروني» فيه «رأي سياسي» وليس لكون ملص أحد أبرز رموز ساحة الكالوتي في العاصمة.
مفارقة… ووزيران
المنشور فيما يبدو التقط فيه ملص مفارقة، وتحدث عنها عبر المقارنة بين «وزيرين في الحكومة» هما وزيرا الخارجية والداخلية. ومع أن وزارة الداخلية تقوم بواجبها بصمت ولم تظهر في صورة التعاطي والاشتباك مع نشاطات أو جدالات الشارع، فإن مصادر نقابية تربط بين تلك الوزارة والأمر بتوقيف ملص ثم الإيحاء بأن التوقيف على خلفية منشور صُنّف بتداول نبأ غير صحيح.
وهي رواية إن حظيت بالمصداقية، ستؤشر على رصد حالة استعمال تعسفية لنصوص قانون الجرائم الإلكترونية ضد أصحاب رأي سياسي أو معارضين، مع أن ملص من الشخصيات المصنفة جداً بالاعتدال في دائرة «أصدقاء التيار الإسلامي» لكنه أحد مؤسسي اللجان الشهيرة المقاومة للتطبيع بكل حال. لافت جداً في السياق، أن السلطات الحكومية التي أمرت باعتقال ملص تمكنت من ذلك بدون «إعلان تهمة محددة» للرأي العام وبدون العرض الأساسي أمام المحكمة وفي توقيت أفرج فيه عن أكثر من 7 آلاف سجين بموجب «قانون العفو العام» وأمرت الحكومة فيه بـ «دعم التسامح».
الإفراج عن أكثر من 7 آلاف سجين بموجب «قانون العفو العام»
اعتقال ملص بطريقة مبالغ فيها تنتمي لأساليب الماضي، برأي الناشط النقابي البارز بادي رفايعة، هو أقرب إلى رسالة معاكسة لكل اتجاهات التحديث والحريات التعبيرية والتعددية الحزبية.
رفايعة وآخرون يعترضون على «طريقة اعتقال شخصية وطنية كبيرة» مثل ملص، بتفتيش منزله أمام أطفاله ثم اقتياده مخفوراً مع وضع القيود بيديه أمام العامة من منزله… وتلك إشارة في منتهى السلبية ـ يقول رفايعة لـ «القدس العربي» وآخرون من نشطاء النقابات، الذين كانوا في الجاهزية لتنظيم اعتصام على ما حصل مع زميلهم ظهر الأربعاء. قبل ذلك، كانت عائلة ملص تنشر على صفحته التواصلية تفاصيل وظروف الاعتقال، ورفاقه يتحدثون عن «إخفاق المحامين» لأربعة أيام بزيارة موكلهم والحصول على وكالته القانونية للمضي قدماً بخطط محاكمته، خلافاً لأن زوجته كما تردد، أخفقت في زيارة شخصية حاولتها.
علامات استفهام كبيرة
تضع تلك التفاصيل العائلية علامات استفهام كبيرة ليس فقط حول خلفية مثل هذا الاعتقال لشخصية معروفة ومعتدلة، بل أيضاً حول وجود «رسالة سياسية» للتيار الإسلامي في الإطار، رغم أن ملص لا يعتبر تنظيمياً جزءاً من الحركة الإسلامية.
والأهم علامات استفهام حول سيناريو عودة «الخشونة» ضد السياسيين والناقدين باستعمال «صلاحيات قانونية» بصيغة تعسفية أحياناً وبظروف إحراج عائلاتهم ومؤسساتهم في أحيان أخرى، الأمر الذي يحصل الآن في ظل تفعيل مسارات التحديث وزمن التعددية الحزبية.
ملص في النهاية موقوف بخلفية «سياسية حكومية» وليس بخلفية «أمنية» ما لم تعلن سلطات القضاء رواية مختلفة. ولعل هذا ما هو أصعب في دلالات الاستمرار باعتقاله من دون تهمة أو محام أو زيارات عائلية لخمسة أيام على خلفية «أخبار يفترض أنها كاذبة» إن صحت مثل هذه الرواية. ويبدو أن ملص «أغضب وزيراً» ولم يغضب الدولة.
وتلك خلاصة مقلقة وفقاً للناشط الحقوقي عاصم العمري، الذي سبق أن تحدث مع «القدس العربي» عن «التكييف» الذي يمكن أن يتسلط على المواطنين لـ «تكميم أفواههم» ما دامت تشريعات سالبة للحريات، مثل الجرائم الإلكترونية، قد عبرت.
حفلة «شيطنة»
مؤخراً، وعلى هامش حفلة «شيطنة» الحراك الشعبي المناصر لغزة وملص بالمناسبة من رموزه، لم يتم «تفعيل» نصوص قوانين الجرائم الإلكترونية في مواجهة سلسلة «جرائم» ارتكبت بحق الاستقرار والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية وخدش معنويات الأمة والدعوة إلى تقسيم الأردنيين والتحريض على عدد كبير منهم.
تلك جرائم سمح بها ولم تتابع بنص بيان حقوقي صدر الأربعاء في عمان. وفيما تبرز الحاجة لقانون الجريمة الإلكترونية لمحاسبة أو مساءلة شخصية متزنة مثل ملص، تغفل عين الحكومة وأنف القانون نفسه عن عشرات المخالفات التي ظهرت في الشبكة على مدار خمسة أيام وهي «تشوه الشعب» وتجرح قيادات المقاومة وتسيء إلى الشعب الفلسطيني، وتهدد أو تخون وتشكك بنصف الأردني.
نصوص الجرائم الإلكترونية صالحة لمساءلة «المعارض النقدي» لكنها ليست صالحة بعد لمواجهة «مخاطر الولاء المسموم المتشنج المتعجل المزاود» التي ظهرت بكثافة مؤخراً في مفارقة وطنية الآن بامتياز. و«عقل الدولة» ينبغي أن يعيد قراءتها ويراجعها جيداً قبل أي تورط بمثل ذلك الفصام الذي يتحدث عنه العمري أو بمثل تلك الانتقائية التي أقل ما يقال عنها أنها معاكسة تماماً لمسارات ورؤية «تحديث الدولة».
اعتقال ملص عملياً يقود إلى «نقاشات» أعمق وأبعد بكثير من الموقوف نفسه والقضية والظرف الزمني… واجب الحكومة أن تتنبه هنا أين تضع قدمها بصورة محددة، فملص الذي لم يتمكن من مقابلة محاميه منذ أيام واقتيد أمام أطفاله بغلاظة هو أحد أبرز «المعتدلين» بين قوى الشارع، وهو من «أكثر الشاكرين» علناً لمواقف القصر الملكي والدولة ورموزها في ملف غزة.
يأمل قادة النقابات المهنية بأن لا يصبح اعتقال المهندس الناشط ملص «رسالة ضد المعتدلين» لأن من سيصفق بالنتيجة لمثل هذا الأداء هي التيارات المتشددة جداً.