الأردن: متى دور «الدبلوماسية الخشنة»؟

لا أرى سببا منطقيا يقنعني كمواطن أو كمراقب أردني بأن البقاء عندما يتعلق الأمر بإسرائيل حصرا دبلوماسيا في مستوى الصمت وإدارة الخطوات الناعمة هو حقا الخيار الأفضل لحماية مصالح بلادنا مادام أهل مكة الفلسطينية أدرى بشعابها وقرروا المواجهة والاشتباك.
ما زلت مقتنعا بأن البقاء في سياق «الدبلوماسية الناعمة»خطر فعلا دون أن يعني ذلك الموافقة على أي «مغامرات» تنقصها الحكمة. لا أعرف بصراحة متى تظهر أوراق الدبلوماسية الخشنة التي يتحدث عنها مسؤول هنا أو سياسي هناك إذا لم تظهر الان؟
أوقف العدو الإسرائيلي المياه وخالف كل الاتفاقيات الثنائية ثم بدأ بسيناريو حسم الصراع في الضفة الغربية قبل الاستهداف الإرهابي للأهل في قطاع غزة خلافا لأنه يتهم الأردن حدوديا ويعلن جهارا نهارا سعيه لتقويض الوصاية في القدس.
يعلم كبار المسؤولين وصغارهم بأن مسار التكيف براغماتيا مع اليمين الإسرائيلي مكلف في الأعماق. ويعلم هؤلاء جميعا بأن الإسرائيلي، شريك السلام، بالأمس يخون يوميا كل ما اتفق عليه اليوم وبأن حسم الصراع بمعنى تدمير غزة وتقويض المقاومة ثم تهويد المسجد الأقصى ومنع إقامة دولة فلسطينية هي وصفة سريعة نحو الترانسفير والوطن البديل لا بل النظام البديل أيضا كما قال رئيس سابق للوزراء.
أسمع يوميا من المخضرمين من طبقة رجال الدولة ما يخيف ويرعب ويتطلب تغييرا مفصليا وفعالا في منهجية العلاقة مع إسرائيل التي تبدلت ولم تعد تلك التي وقعت معها اتفاقية وادي عربة.
ما نسمعه ويقوله الخاصة والعامة حتى من أبناء دوائر القرار والدولة هو أن الخطر حقيقي وبالتالي لا نفهم متى يمكن أن تستخدم بعض الأوراق ولو بالحد الأدنى سياسيا ودبلوماسيا إذا لم تستخدم الآن وفي ظل استعراضات القوة القذرة التي يخيف فيها الإسرائيلي الجميع.

أسمع يوميا من المخضرمين من طبقة رجال الدولة ما يخيف ويرعب ويتطلب تغييرا مفصليا وفعالا في منهجية العلاقة مع إسرائيل التي تبدلت ولم تعد تلك التي وقعت معها اتفاقية وادي عربة

لا أحد طبعا يزاود على الموقف المرجعي السياسي الأردني فهو الأكثر تقدما في السياق العربي وصلابة لكن المطلوب تغيير منهجي في سلسلة العقائد التي برمجت منذ عام 1994 على أساس الشراكة مع إسرائيل إقليميا وسلميا. الشريك لم يعد موجودا وما يفعله الكيان يوميا يزيد من مديونية الأردن الخارجية والحصار الحقيقي للاقتصاد الأردني ناتج عن الإسرائيليين وللأسف شركائهم العرب في الإبراهيميات.
نفهم قدرات بلادنا جيدا لكن نفهم أيضا وجود هوامش مناورة ومبادرة وخبرة يفترض أن تستخدم الآن.
وفي ظل الظروف المعقدة الحالية ولو على الأقل من باب رفع كلفة استهداف الدولة الأردنية أو سيناريو خدش العملاق الذي يحاول التهام الجغرافيا والتاريخ. موقف الأردن الرسمي في الملف الفلسطيني صلب ومتقدم ويقف مع الحق لكن ما نطالب به اليوم قراءة أعمق تغادر السطح للحدث وتؤطر خطابا وطنيا أفقيا يصلح للاشتباك والمجابهة وليس المقاومة دفاعا عن كيانية الوطن الأردني من المخاطر الوجودية التي قد تحيق به.
من سوء حظ مروجي ثقافة السلام والتطبيع أن المصالح الأردنية الأساسية المباشرة اليوم لم يعد لها علاقة بعملية سلام أصبحت عظامها مكاحل، وأنه يتبين يوميا بان إتفاقية وادي عربة لم تدفن الوطن البديل. ومن سوء حظ البراغماتيين والواقعيين لم يعد معقولا ولا مقبولا تجاهل الطرف الوحيد والأساسي في الإقليم الذي يتبنى خطابا وأفعالا ترفع من قيمة وشأن المصالح الأساسية للأردن.
والحديث هنا طبعا عن المقاومة الفلسطينية التي تغلق الحكومة الأبواب أمامها بشكل غير مفهوم بدلا من الاستثمار فيها كما تفعل دول أخرى معتدلة في المنطقة مثل مصر وقطر وغيرهما. أقله نمط من مهارة الاستثمار في الجيوسياسي فحدود الأردن مع فلسطين المحتلة هي الأوسع، وزمن المساعدات انتهى، والجغرافيا يمكنها أن تعيد إنتاج الكفاءة المهنية في التفاوض وتخدم تعزيز الأدوار.
أصبح الامتناع عن الاستثمار في الجغرافيا المحاذية لفلسطين المحتلة لغزا حقيقيا في الشارع الأردني مع التذكير بأن الأزمة المعيشية والاقتصادية الناتجة عمليا عن حصار اقتصادي على البلاد بسبب مواقفها السياسية في قضية فلسطين مثلا عنصر إضافي في المشهد يتطلب تفعيل عناصر الخبرة والمناورة ببعض الأوراق التي لا تغيّر موازين القوى في الواقع.
معركة غلاف غزة، التي لا تزال مستمرة، قلبت العديد من المعطيات على طاولة الإقليم. وغير مقبول أن تبقى المؤسسات الأردنية الدبلوماسية والسياسية في تفعيل خاصية الصمت والمراقبة في مواجهة التغييرات الحادة في الإقليم وفي العالم فيما كلاسيكيات الحديث عن المساعدات الأمريكية والضعف الاقتصادي لم تعد مقنعة للمواطنين الأردنيين. مفهوم طبعا أن أزمة أي لعبة تبدأ بعدم وجود لاعبين وما يعلمه كثيرون أن لاعبي المشهد السياسي والتفاوضي والإقليمي اليوم يتحركون الآن، يفعلون في اتجاهات حتى دون مستوى الاستثمار في الموقف الاردني المرجعي المتقدم. المراجع في الحالة العامة تبدو وحدها في ميدان التأكيد على الثوابت ومخاطبة دول العالم. سئم الشارع الأردني هذه الحالة ويطالب بوضوح بمنهجية مختلفة.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية