الأردن و«المنظومة»: الآباء متعددون والأبناء «ضالون»

بسام البدارين
حجم الخط
0

عندما تقرر جهة رسمية ما تشكيل لجنة عريضة جدا يصل قوامها إلى 92 عضوا، الانطباع الأول المتشكل تلقائيا سيوحي بأن مهمة تلك اللجنة خطيرة وحساسة، لا بل تشكل ضرورة وطنية قصوى. إزاء انطباع من هذا الصنف طبيعي جدا أن يرتفع سقف التوقعات.
وطبيعي أيضا أن يغرق الشارع بتلك الرومانسية المعهودة، فالحدث جلل وغير مسبوق، وعدد أعضاء اللجنة ضخم، يعني ضمنيا بأن جهة القرار خططت لتمثيل المجتمع ومكوناته ضمن ذلك العدد، بالرغم من أن الملفات المطلوبة قد لا تحتاج لأكثر من سبعة خبراء فقط.
كثيرون لاحظوا مبكرا بأن العدد الضخم لأعضاء اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن قد يتسبب بالزحام أو يعيق الحركة.
هؤلاء تحديدا صمت أغلبهم تجنبا لعلبة الاتهامات أو حتى لا يقال بأن موقفا نقديا من لجنة لم تعمل بعد سببه شخصاني دوما، أو حتى لا يقال بأن من يحتج مبكرا يعترض في الواقع على عدم شموله بعضوية تلك اللجنة الضخمة.
كنت من المترددين ولم تعجبني مسألة العدد الضخم إطلاقا، وسرعان ما اكتشف الجميع وبصراحة أن ملاحظة الزحام في مكانها وبأن العدد الكبير في لجنة استشارية قد يكون له هدف أنبل وأعمق، وليس من النوع الذي يرصده البسطاء منا.
عقدت اللجنة اجتماعاتها وسط الزحام، وكان الإيحاء كبير بأن البلاد بصدد التحول ديمقراطيا مرة أخرى، وبسيناريو لا يقل أهمية عن ما حصل عام 1989 عندما ألغيت الأحكام العرفية وتقرر التحول الديمقراطي الانتخابي، وتشكلت وثيقة مرجعية مهمة لا أحد يعلم كالعادة أين هي الآن.
العنوان كان عريضا فالحديث هنا عن تحديث المنظومة السياسية برمتها، ولك أن تتخيل كأردني أو مراقب للأردنيين وشؤونهم، ما الذي يمكن بناؤه من آمال، ورفعه من سقف التوقعات بعد قراءة عبارة ساحرة من هذا النوع باسم تحديث المنظومة ثم تشكيل واحدة من أعرض وأضخم اللجان لإنتاجها.

اللجنة بدأت في اتجاه ومسار، وانتهت بآخر مبني على سلسلة من التسويات السياسية والتشريعية والبيروقراطية

ولدت المعطيات كما حصل في مشاهد أكثر أهمية في تونس والمغرب ومصر بعيدا عن اعتبارات ما يسمى بالدولة العميقة، وظهرت حمى الاستيزار عند بعض أعضاء اللجنة كما ظهرت طموحات البعض الآخر في الاستثمار والتوظيف وترتيب الملفات الشخصية، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فاللجنة كبيرة جدا وبعض أعضائها يغيبون عن غالبية الاجتماعات، وجزء منهم كان يدير مساهماته الوطنية عن بعد وعبر مجموعات «الواتس أب» فقط.
بصراحة مجددا تم تضخيم وتهويل المشهد وطبعا لأغراض يمكن فهمها وهضمها في وقتها. لكن كلفة التضخيم ظهرت مبكرا أيضا، فاللجنة بدأت في اتجاه ومسار، وانتهت بآخر مبني على سلسلة من التسويات السياسية والتشريعية والبيروقراطية، فيما خاب الظن لعدة أعضاء ناشطين في لجنة التحديث انقلبوا وتشقلبوا على أنفسهم عدة مرات، وليس سرا أن بعض هؤلاء تحديدا من الناقدين الكبار للدولة والحكومة، وليس سرا أن بعضهم الآخر من دعاة التمدين ومن جماعة «إسمعني في الليل لكن شاهدني في النهار».
وسط هذه الكمائن والألغام ناضلت اللجنة، وحاول رئيسها بمهنية صناعة ذلك التوازن المطلوب بين الحكم والمحكوم.. الدولة والناس.. النص والواقع أملا في توفير صيغة لم يقل أحد إطلاقا أكثر من أنها خطوة بناء نحو المستقبل.
تعكس الأرقام تلك الحقيقة المرة التي يحاول بعضنا انكارها، فغالبية المجتمع وبنسب تقترب من 70 في المئة لا تثق باللجنة وغير متفائلة بمخرجاتها، ومحطة السخرية المرة من اللجنة وأعمالها، بدأ يركبها بعض الحراكيين والمعارضين الذين يمتهنون فقط ومنذ عقود وسنين تشويه ما يصدر عن السلطة بصرف النظر عن المادة والموضوع وحتى في الكثير من الأحيان دون مراجعة أو قراءة ما تقوله السلطة حقا.
لكن المؤلم وطنيا أن السلطات قد لا تكون موحدة وأن النص الرسمي اليوم لا أحد يعلم من الذي يمثله ومتى وعلى أي أساس؟.. النصوص التي تتحدث باسم الدولة متعددة والآباء كثيرون والأبناء ضالون، ومسألة الإصلاح السياسي والجدال حولها أصبحت فعلا أقرب إلى حفل وناسة على طريقة المنوعات الخليجية، فالجميع يعقد ورشات حوار، والجميع ينضم إلى لجان من كل الأصناف، لكن الوثائق تذوب أو تختفي أو يلقى بها في أرشيف يعلوه الغبار.
احتاجت اللجنة أثناء العمل لوثيقة مرجعية حول الأقاليم سبق أن انجزتها لجنة ملكية أخرى قبل سنوات وعملت عليها لمدة عام كامل وفوجئ المعنيون بعدم وجود نسخة إلكترونية ولا ورقية من تلك الوثيقة وفي كل المؤسسات الرسمية حتى أنقذ الموقف رئيس تلك اللجنة رجل الدولة والسياسي المخضرم زيد الرفاعي بعد ما تبين بأنه يحتفظ بنسخة أصلية من تلك الوثيقة.
بالتأكيد لا نريد مصيرا مماثلا لوثيقة الأقاليم.
وبالتأكيد أملنا كبير في أن تنجز لجنة تحديث المنظومة ما ينفع البلاد والعباد لكن الزحام كان مشكلة، وعندما صرخنا بذلك لم يستمع لنا أحد.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية