عمان – «القدس العربي» : ما الذي دفع ماكينة رئاسة الوزراء في الأردن للتحرك الفعال والسريع وعلى شكل جاهة بيروقراطية، هذه المرة، لاحتواء استقالة أحد أكبر أطباء وزارة الصحة. يدخل المشهد سياسياً وإعلامياً على الأقل في سياق «فانتازيا» نادرة وغير معهودة وسابقة ترصد لأول مرة.
يعلن رئيس أكبر مستشفيات في القطاع الحكومي، الطبيب الدكتور محمود زريقات، استقالته ويشرح أسبابها ظهر الأحد، فتشتعل منصات التواصل الاجتماعي، وتولد تعبيرات تناشد حتى الملك عبد الله الثاني التدخل، ويسأل آلاف الأردنيين مع تغريداتهم عن ما يحصل في وزارة الصحة.
يعلن الطبيب زريقات استقالته على أساس سبب مركزي، كاشفاً أن الحكومة بمعنى زير الصحة النجم سعد جابر، تصر على تشغيل مستشفيات جديدة للإسعاف والطوارئ بدون توفير الكادر اللازم لها، مؤكداً أنه لن يتحمل مسؤولية ما سيحصل للمرضى والمراجعين جراء عدم وجود سرير أو كادر.
لاحقاً، يبلغ الوزير جابر قطب البرلمان خليل عطية بأنه قرر عدم قبول استقالة الطبيب زريقات الذي يدير أضخم مستشفيات المملكة التابعة لوزارة الصحة. ثم تبدأ سلسلة من المجاملات والألعاب البيروقراطية حتى لا يتدحرج ملف استقالة زريقات المدوية على الرغم من تحقيق لدى النيابة بتهمة تقصير محتمل بعد وفاة الطفلة سيرين في المستشفى نفسه بسبب عدم وجود سرير.
فجأة تعيين 100 من الأطباء و300 ممرض لإرضائه
يعبر موضوع الطفلة المتوفاة بدون اعتذار من أي مسؤول في الحكومة باستثناء زريقات الذي عبر عن أسفه قبل استقالته. ولا يرصد الرأي العام كلمة واحدة من رئيس الوزراء أو وزير الصحة تعبر عن الأسف لوفاة طفلة أو حتى تتحمل المسؤولية الأدبية.
على كل حال، يستقيل زريقات ولا تصمد استقالته 24 ساعة حتى لا ينشغل الشارع بفتح ملف القطاع الصحي الحكومي. يصطحب الوزير جابر معه ما يشبه جاهة من البيروقراطيين، ثم يقرر زيارة زريقات في مكتبه ومشفاه، وثمة كاميرات بكثافة لكي تلتقط صورة الوزير النشط وهو يحتوي استقالة الطبيب الكبير أملاً في طي ملف المسألة.
يشارك في الترتيب المسؤول الأول عن ديوان الخدمة المدنية، الأمر الذي يعني ببساطة، بيروقراطياً، صدور توجيهات تبارك احتواء الاستقالة من رئيس الوزراء شخصياً الدكتور عمر الرزاز.
وسط الكاميرات وتوزيع الابتسامات وبدون كمامات، يحاول الوزير جابر احتواء استقالة الطبيب زريقات، فيتراجع الثاني عنها فجأة ودون إبلاغ الأردنيين بأن مشكلته عولجت أصلاً، مع أن كل ما حصل بعد حادثة الطفلة سيرين ينبغي أن يتجمد بانتظار كلمة القضاء وانتهاء التحقيق.
وفجأة أيضاً، يمنح الوزير جابر طبيبه المتراجع عن الاستقالة ما يريده، فيتم الإعلان عن استثناء بعد تدخل مع الرزاز لتعيين مئة طبيب جديد و300 ممرض في مستشفى البشير، أضخم مستشفيات الحكومة.
لا يمكن وصف ما حصل إلا بوصفه استعراضاً كبيراً أمام العدسات وخطوة احتوائية لترقيع المشهد البيروقراطي بعدما كادت استقالة الطبيب الكبير تطيح بإمبراطورية الوزير جابر المثير للجدل، بل وبمشروع الرزاز نفسه الذي غفر له الرأي العام كل شيء وتسامح مع حكومته بكل الملفات على أن ينجح حصرياً بما سمّاه هو «تحسين خدمات القطاع العام».
طبيعي القول إن تحسين القطاع العام يعني ضمنياً وبشكل أساسي التعليم والصحة. وطبيعي جداً القول إن استقالة الطبيب زريقات لو اكتملت كانت ستؤدي إلى تفاعلات حادة تكشف عن أن الحكومة تبني مستشفيات بدون توفير كوادر، الأمر الذي يبرر، بيروقراطياً وسياسياً، انشغال مقر رئاسة الوزراء بمعية جابر بالاحتواء السريع حتى لا ينفلت الجدل حول القطاع الطبي.
ثمة من التقط مبكراً، بعدما أثارت استقالة زريقات عاصفة من الجدل السريع، أن مستشفى الإسعاف والطوارئ الذي قال زريقات في كتاب استقالته إنه يعترض على تشغيله بدون كوادر، هو نفسه المستشفى -كما لاحظ الناشط الإلكتروني محمد ربابعة- الذي افتتحه الملك عبد الله الثاني قبل ثلاثة أسابيع.
بمعنى سياسي أعمق.. لا تريد وزارة الصحة ولا حكومة الرزاز تفاعل الأمر وعودة الأضواء إلى مستشفى البشير خشية مواجهة الرقابة الملكية حصرياً، حيث لا توجد مؤسسة زارها وتابعها الملك شخصياً على مدار أعوام كما فعل مع مستشفى البشير. وحيث تكثر الحكومة من التحدث عن تحسين القطاع العام لفظياً بالتزامن مع التحديات التي فرضها إيقاع الفيروس كورونا. فهل المطلوب إرضاء الطبيب المستقيل زريقات فقط وإخضاعه في سابقة غير مألوفة إلى موجة من الدلال، أم أن الأزمة أعمق من ذلك؟
هل ينطوي المشهد على إيحاء بأن الحكومة المقصرة لا ترغب في مواجهة منسوب الدقة والالتزام والحرفية في مؤسسة القصر بعدما اختفى بعض حلفائها من طبقة المستشارين؟
تلك أسئلة مطروحة اليوم، لكن لا أجوبة محددة عليها بعد؛ لأن الحكومة برمتها ومعها الوزير جابر، نجم الظهور بلا كمامات -رغم إغلاق أكثر من ثلاثة آلاف و800 منشأة على الأقل بسبب عدم ارتداء الكمامات- في مرحلة حساسة لها علاقة بتقرير المصير قبل 26 من شهر أيلول، حيث موعد وتوقيت انتهاء الصلاحية الدستورية لمجلس النواب. وباختصار، ما حصل في مسألة استقالة الطبيب زريقات والمعالجة البيروقراطية المتأخرة هي سابقة تظهر تشويشاً وبضعة ألغاز.