كانت السودان دائماً محطّ أنظارنا نحن في المشرق العربي، في غيرة من حيوية شبابها، ومن الاندماج في السياسة، أو عجز الديكتاتورية عن منع تسييس المجتمع، ومن العقل الأقرب إلى الديمقراطية لدى يسار السودانيين ويمينهم.. في صورة عامة عن حالة مدنية متطورة لبلد فقير- غني في الوقت نفسه. كان كلّ شيء يوحي بأن هنالك مجتمعاً مدنياً قوياً، بكمونه وأصالته على الأقل، وتلك الصورة اهتزّت بقوة للأسف مع حكايات عهد البشير وطغيانه و»إخوانه». لتعود من جديد مع صرخة الحرية ومواكبها في ثورة كانون الأول/ ديسمبر: حرية سلام وعدالة.
لكن خصائص المسار الموحّدة للربيع العربي، أثّرت بدورها في خيارات الثوار، حين كان لهم الاختيار بين الاستمرار حتى النصر الحاسم، أو الجنوح إلى السلم ما أمكن، بالتشارك ما بين «قوى الحرية والتغيير» والعسكريين الذين استجابوا وأسهموا في عزل البشير وإنهاء خياره نهائياً. وكلّ ما حدث لاحقاً، ويحدث الآن كان متوقّعاً ومن طبيعة الأشياء، فقط كان لنا أن نحلم بسلامة الخط وسلميّته والتزام الجانب العسكري الفعليّ بالبرنامج الذي جاء في الوثيقة الدستورية، التي تم التوقيع عليها في 17/8/2019، وإنهاء التردد الذي ظهرت بوادره في تسليم رئاسة المسار للمدنيين.
ولم يكن ذلك التردد ليظهر لولا الانشقاق في الجبهة المدنية، جبهة «قوى الحرية والتغيير» من خاصرتها «العسكرية» أيضاً إن جاز القول: ما أصبح اسمه قوى «الإصلاح» التي تضمّ خصوصاً تلك القوى التي شملتها اتفاقات السلام في جوبا، التي يبدو أن استعراضاً سريعاً للقوى المسلحة التي وقعتها، يمكن أن يساعد قليلاً على جلاء المضمون. في عام 2006 حصل انشقاق في» حركة تحرير السودان، خلال مفاوضات مع الحكومة وقّعها أحد طرفي الانشقاق، مني مناوي، الذي أصبح مساعداً للبشير بعد ذلك. مناوي أيضاً أحد موقّعي اتفاق جوبا، وهو حاكم لشمال دارفور حالياً، وأحد أطراف جماعة «الإصلاح».
على أرضية قبلية وعرقية في أطراف السودان وجسده كله، تعترم حالياً مطالبات مستقلة وتهدّد بالاستقلال هنا وهناك
وقّعت كذلك «حركة العدالة والمساواة» على اتفاق جوبا، وهي حركة مسلحة يرأسها جبريل إبراهيم – وزير المالية في حكومة حمدوك- وكانت الحركة في حقل الأيديولوجيا الإسلامية عند نشأتها، بمؤسسها خليل إبراهيم، وهو أخ للوزير جبريل الذي ورث منصبه بعد مقتله. ساندت تلك الحركة، كما يُقال، انقلاب البشير، وكان لزعيمها الراحل منصب وزاري في حكومته في إحدى الفترات. وكذلك تشكل الحركة طرفاً مهماً من جماعة الإصلاح، ويبرز من بين قادتها الوزير جبريل، الوزير الذي يطالب بحلّ الحكومة الآن، الأمر الذي يعطي دفعاً قوياً لرفض المجلس العسكري تسليم القيادة السياسية للمدنيين.
«الحركة الشعبية لتحرير السودان» جناح مالك عقار وقعّت أيضاً، وحاز زعيمها عضوية مجلس السيادة من خلال توقيعه، وهو مثلاً يعطي إشارات واضحة مؤخّراً في منطقته – النيل الأزرق- إلى اختلافه مع المصالح السودانية الغالبة في النزاع الخاص بسدّ النهضة، مؤكّداً أن ليس من تأثير له في السودان أساساً. هناك آخرون أيضاً، لكن المجال لا يتسّع إلّا للأكثر أهمية، من دون أن يعني ما ورد أعلاه إنكاراً لكون جماعة الإصلاح جزءاً انضم بالتفاوض إلى قوى الحرية والتغيير المدنية، وجاء إلى الحكومة من خلال عضويته في ذلك الكيان الذي قاد الثورة والحراك الشعبي.. كان الطرف العسكري، أو شبه العسكري في الجانب المدني من الشراكة على الوثيقة الدستورية. وهذا، بعد خبراتنا في الربيع العربي، يساعد على التفهّم أو الفهم في أحد جوانبه: دور» العسكرة» ودور» الأسلمة» في تلغيم الربيع وتجفيفه. وربّما هناك أمور أشدّ عمقاً، ينبّه إليها انطباعنا القديم الظاهري حول «مدنية» السودان ومجتمعه المدني: مدينته وقبائله بالأحرى. والحقائق عن التوزّع القبلي والعرقي في السودان صادمة للناظرين إلى السودان من الخارج من أمثالي، المنطلقين من متابعاتهم وتواصلهم مع النخب السودانية المثقفة. فالقائد التاريخي للحركة الشعبية ومؤسسها جون قرنق كان من قبيلة الدينكا، كما هو خليفته سيلفا كير، ومراكز قوى حكمه اللاحق بعد الاستقلال أيضاً. في حين ينتسب الجناح المنشق بزعامة رياك مشار إلى قبيلة النويرة. والصراع بينهما أساس مشاكل جنوب السودان حالياً، التي لم تستطع قوة النخبة الجنوبية ومثقفوها أن تحدّ من تأثيرها التخريبي. في حين ينتسب كل طرف من أجنحة الحركة في الشمال إلى قبيلة: في منطقة كردفان والنيل الأزرق يقود أحدها عبد العزيز الحلو من قبيلة المساليت، وثانيها مالك عقار من قبيلة أنقستا. والرجلان كانا في مفاوضات جوبا، لكن الأول انسحب منها احتجاجاً على رئاسة محمد حمدان قلو» حميدتي» للوفد الحكومي، في حين «سلّم قادة الحركات المسلحة الموقّعة على الاتفاق على حميدتي بالأيدي، ورقصوا معاً على وقع الموسيقى». كما جاء في الأخبار.
والأخير بذاته حكاية مثيرة في هذا السياق القبلي والعرقي أيضاً، لوراثته ما كان يُدعى بالجنجويد تشهيراً، وبقوات الدعم السريع رسميا لاحقاً، بعد أن كان لها اسم آخر في إحدى المراحل «قوات الدفاع الشعبي» وهو اسم لامع في السياق السوري – مثلاً- للربيع العربي ومجازره. وحميدتي بالمناسبة هو وريث قريبه «اللدود» موسى هلال في القيادة، المطلوب دولياً لجرائم ضد الإنسانية، ذات طبيعة عرقية.. وتلك القوات، قامت أساساً على عصبية «عربية» مكشوفة.
على أرضية قبلية وعرقية في أطراف السودان وجسده كله، تعترم حالياً مطالبات مستقلة وتهدّد بالاستقلال هنا وهناك، في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان.. وتحتشد العصبيات تلك لتأكل في بنية الثورة وتشكّل أرضية وقاعدة الثورة المضادة هناك. ليبدو وكأن هنالك صراعاً على مستقبل البلاد، ما بين مدنيّته ومدينته من جهة، وعسكريّته وقبائليته من جهة مقابلة.. من دون أيّ انتقاص من فعالية العسكريين ثواراً، أو حقوق الثقافات الفرعية، في التعبير عن نفسها وعن جمالاتها الخاصة، التي تستطيع أن تكون قوة ثورية ودافعة كذلك في الوقت المناسب.
لا تتشكّل الجهة المدنية من أحزاب سياسية وحسب؛ وهي جزء اعتباري من المجتمع المدني، حين يكون أساس تكوينها سياسياً محضاً، لا تخالطه أو تشوهه عصبية أخرى قديمة ومتأخّرة أو ما قبل وطنية؛ بل خصوصاً لأن «قلب» الحراك السوداني هو في المثقفين السودانيين و»تجمع المهنيين» الذي ينتظم شباب الثورة وحيويتها، بل والمحافظة على قوتها التغييرية من دون تراجع. إلّا أن هناك ارتباكاً واضحاً في هذا الطرف الذي أصبحت علامته الفارقة «المجلس المركزي» ينطلق من غياب استراتيجية موحدة وشفافة، ومن غرق أطرافها قليلاً بسياساتهم الانتخابية المستقلة منذ الآن، وقبل ضمان استقرار مسار التغيير وتركيزه على ما هو وطني شامل، قبل أيّ وجهة نظر خاصة، حتى لو بدت لبعضنا صحيحة أو صحية، أو أنها ضمان لجذرية التغيير وعمقه، قد يستدعي تحقيق استراتيجية ناجحة بعض التنازلات المتبادلة، على أن يتمّ تقديمها بشكل موحّد، وبخطى واثقة وثقة متبادلة. وبالمناسبة، ضمّت مظاهرات 21 أكتوبر في الأسبوع المنصرم معظم القوى على الطرفين المتنازعين، كما حدث في اليوم والأسبوع المماثلين من عام 1964، عندما عقد طلاب جامعة الخرطوم مؤتمراً، من أجل إدانة عمل الحكومة في جنوب السودان والتنديد بالنظام. ووقعت اشتباكات بين الطلبة والأمن أسفرت عن مصرع الطالب أحمد القرشي، وخرجت مظاهرة حاشدة في جنازته في اليوم التالي، شارك فيها جهاز التدريس في الجامعة وعشرات آلاف المتظاهرين، ورفعوا شعار إنهاء النظام العسكري، وتشكيل حكومة دستورية، وأعلنوا الإضراب العام. ثم استمرّ الحراك في كلّ السودان واتّسعت القوى المشاركة فيه، بما في ذلك انضمام عدد من» الضباط الأحرار» في الجيش إليه، ما أجبر الفريق إبراهيم عبود على الرضوخ والتراجع. وكانت تلك مجرّد ورشة نموذجية لاستراتيجية أكبر حجماً، وأكثر تعقيداً تحتاجها الأوضاع الراهنة، وتستطيع تنفيذها القوى الثورية بطاقاتها الكامنة الجبارة وقدراتها القيادية، في حين ينطبق على الانتهازيين والمغلوبين على أمرهم ذلك المثل السوداني الرائع، في أن» المحرش ما بكاتل»!
(بالفعل، هاجم» العسكريّ» أو بعضه ذلك» المدنيّ» في الحكم الانتقالي، قبل إرسال هذا المقال بوقت قصير. وابتدأت بذلك أزمة أكبر يتحرّك فيها «القبائلي» أيضاً، غير مدرك بأنه سيكون الضحية التالية.. ولعلّ قوى الثورة السلمية – المدنية تنهض وتستنهض حراكاً لا يستطيع غلاة العسكري والقبلي مقاومته، فيكون بذلك خيرٌ حيث أرادت الثورة المضادة شراً)
كاتب سوري
مشكلة السودان الدائمة تحجيم مصالح الولايات لصالح العاصمة الخرطوم وما نشأ عن ذلك من تهميش وإجحاف وتشوهات وبالتالي الحل الجذري يتمثل في إقامة مجلس تشريعي مؤقت من ممثلي قبائل وعشائر السودان بتمثيل متساوي للولايات مع حجب ولاية الخرطوم مؤقتاً حتى لو تطلب الأمر نقل العاصمة مؤقتاً خارج ولاية الخرطوم، وذلك إلى حين وضع دستور جديد وقانون انتخاب عادل يضمنان تساوي تمثيل الولايات بمجلس النواب ومجلس الوزراء وجميع المناصب الحكومية ويضمنان حصول الولايات على حصص متساوية في ميزانية الحكومة والمصاريف والاستثمارات.