بداية، لا فرق بين إسرائيل والصهيونية كعقيدة واستراتيجية، فالأولى وليدة الثانية، وإضعاف إحداهما هو إنهاك للأخرى. نتناول هذا الموضوع في الذكرى 72 للنكبة، وزرع الدولة الاغتصابية الكولونيالية الإحلالية في فلسطين، وقلب الوطن العربي. هذه الدولة تقوم بتطبيق المبادئ الصهيونية بحذافيرها، سواء من حيث الإمساك بالمال والإعلام في العالم، كعامليْ وجود أولا، وتأثير سياسي على الدول ثانيا. وتسييد مبادئ «الأمن الإسرائيلي والردع»، واتباع الوسائل الكفيلة بإبقائهما قويين، اعتماد شعار، «ما لا يمكنك تحقيقه بالقوة، يمكنك أخذه بمزيدٍ من القوة». كذلك بسنّها قانون «القومية»، إسرائيل تعتقد أنها ماضية باتجاه تحقيق شعار «يهودية إسرائيل»، الدولة التي حلم بها هرتزل في كتابه «دولة اليهود» منذ ما قبل عام 1897 بسنوات طويلة.
في علاقاتها بالفلسطينيين وقعت اتفاقية أوسلو معهم، لتستغلها عمليا لإفراغ كافة الحقوق الفلسطينية من مضامينها، والتخطط لضم غالبية مناطق الضفة الغربية، والتنكر للقرارات الدولية المنصفة للفلسطينيين، بما فيها القرار رقم 194، المتعلق بعودة اللاجئين الفلسطينيين والبدء بالتطبيق الفعلي لـ»صفقة القرن» التصفوية.
حول العلاقات مع النظام الرسمي العربي، حيّدت أكبر دولة عربية، وهي مصر باتفاقيات كمب ديفيد، وعقدت اتفاقية وادي عربة مع الأردن، وتتدخل عسكريا في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن والسودان وإرتيريا والصومال، وتقوم بتنفيذ كافة قرارات مؤتمرات هرتسيليا الاستراتيجية الـ19، ببناء علاقات مع الدول العربية، وصولاً إلى التحالف معها لبناء «الشرق الأوسط الجديد»، وفق تصورات ما جاء في كتاب شيمعون بيريز بالعنوان نفسه، ترسم فيه إسرائيل جدول أعمال المنطقة.
استراتيجيا، خططت إسرائيل للاعتماد على ذاتها كدولة إمبريالية مستقلة، أي أخذ القرار الذي تريد بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية، المسماة الحليفة الاستراتيجية الأولى لها، لكن الأصح حاميتها وضامنة وجودها، وهي التي تجبرها على اتخاذ خطوات لا تريدها. الدليل على ذلك: أنه في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 طالب الرئيس أيزنهاور الدول الثلاث إسرائيل، فرنسا وبريطانيا بالانسحاب من المناطق المحتلة فورا، كذلك مجلس الأمن، وصدر أيضا إنذار سوفييتي. في حرب عام 1973 عندما تضعضع الوضع الإسرائيلي عسكريا في البداية، هرع الأمريكيون بطائراتهم وطياريهم لتعديل الموازين العسكرية. أوباما فرمل إسرائيل أكثر من مرّة عن ضرب المشروع النووي الإيراني. ويقترب الدعم الأمريكي الذي تلقّته إسرائيل، منذ احتلال فلسطين عام 1948 وحتى 2017، من 130 مليار دولار، بحسب التقديرات الرسمية، إلا أن تقديرات أخرى تقول إنه وصل إلى نحو 270 مليار دولار. هذا عدا عن الدعم العسكري والسياسي، ومنع إدانة إسرائيل في الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات التابعة لها، بالتالي مهما بلغت قوة إسرائيل على المدى المنظور، لن تكون إلا تابعة للقوة الاستعمارية الأولى..
صحيح، استطاعت الصهيونية ووليدتها إنجاز جزء كبير من خطتها، لكننا نؤكد أنه وبعد 72 سنة من الوجود، باتت تعيش أزمات بنيوية مهددة للوجود بالمعنى الاستراتيجي، تجبر نتنياهو على التمني أن تكمل إسرائيل 100 عام، وأن لا تكرر تاريخ مملكة حشمونائيم التي عمّرت 80 عاماً وهزمها الرومان. الإسرائيليون يعانون أزمة انتماء وهوية، بين بلد الأصل والبلد الجديد: أشكناز، سفارديم، فلاشا، توجد تناقضات داخلهم، وتُمارس عنصرية بغيضة بحقهم، تتسبب بقيام مظاهرات دامية كمظاهرات الفلاشا. إسرائيل حتى الآن لم تصل إلى تعريف موحد لمن هو اليهودي، إسرائيل تعيش أزمة العلاقة بين الدين والدولة، فكيف بالعنصرية التي تمارس ضد فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948.
إسرائيل ليست مثلما تدّعي: دولة «المساواة القومية»، إنها دولة الاضطهاد القومي الفاشي. الأولوية للكيان الصهيوني هي الحرب والجانب الأمني بالطبع. كما يعاني من تدخل المؤسستين الدينية والعسكرية في الحكم، هذا ما يؤثر سلبا على تحديد سلّم الأولويّات الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يتجلّى في الأزمات الحزبية والسياسية والحكومية. إسرائيل تفضّل العيش داخل الأسوار (بنت 7 أسوار حدودية حتى الآن) من خلال التقوقع حول الذات، والتحصّن ضمن الغيتو العسكري بامتياز، المدجج بجميع أنواع الأسلحة، لذلك تشير الإحصائيات إلى تزايد الهجرة العسكرية منها، وقلة الهجرة إليها. إسرائيل ما زالت تفتقد دستوراً، الأيديولوجية الصهيونية تشكّل مجالا كبيرا للتعارضات، التي تصل حدود التناقضات، سواء بالنسبة لحدود دولة إسرائيل وأين ستصل. إسرائيل تواجه مشكلة العلمانية. في كثير من الأحيان تقوم تعارضات حادة تقال الحكومة على أثرها لخلافات بين رئيس الحكومة والكنيست. إسرائيل وفقا لخبراء عديدين تفتقد القدرة على التخطيط في مجالات متعددة، باستثناء الاستيطان وقضم الأرض وسرقتها من الفلسطينيين، وهي دوما جاهزة للحروب العدوانية العسكرية على الفلسطينيين والعرب.
إسرائيل تفتقد القدرة على التخطيط باستثناء الاستيطان وقضم الأرض وسرقتها من الفلسطينيين، وهي جاهزة دوما للحروب العدوانية
على الرغم من اعتبار روّاد الوجودية أنها سياسة وليست أيديولوجيا، وأيضا هم لم يحاولوا تأسيس أيديولوجيا لها، لكن بعضهم اقترب قليلاً أو كثيراً من هذا المذهب واعتبارها أيديولوجيا معتنقة، قبل أن تكون سياسة. منهم مثلا الفيلسوف توم جوردن بالم، الذي قال في لقاء ثقافي في بوسطن عام 2016: إن هناك ثلاثة من الفلاسفة الوجوديين، كتبوا بشكل خطر ضد الحرية بشكل عام، وحرية الشعوب بشكل خاص، واعتبرهم ملهمي الأيديولوجية النازية، وكافة الحركات الفاشية الأخرى، وهم الألمانيان، مارتن هايدغر وكارل شميث، ورائد النيوليبرالية فريدريك فون هايك. رغم أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضع مسألة حريته كقضية وجودية مهمة، لطالما احتلت الصدارة في التاريخ الفكري والفلسفي والإنساني على مرّ العصور، فهو يريد دوما أن يكون ما يفعله نابعا من إرادة حرة، وليس مدفوعا تحت ظروف حتمية شكّلته، ولا تزال تشكله، ولا دخل له فيها، والجدل حول هذه المسألة ما يزال قائماً، بالطبع وفقا لعلماء ومنظّري الوجودية، هناك نوعان من الوجوديين، هناك وجوديون مسيحيون وعلى رأسهم كارل ياسبرز وغابرييل مارسيل. ووجوديون ليبراليون من ضمنهم مارتن هايدغر وجون بول سارتر مع وجوديين فرنسيين آخرين كسيمون دي بوفوار. ووفقا للباحث حاتم الجوهري، فإن موقف سارتر من اليهودية قائم على فهم وجودي بحت بعيدا عن الدقّة، من هنا قارب سارتر المسألة اليهودية التاريخية، معتبرا أن اليهود تعرضوا لعملية سلب وجودي، لم يعطهم الفرصة ليكوّنوا وجودا إنسانيا أصيلا، بسبب أن العالم سلبهم ذلك الحق فى بناء ماهيتهم ودولتهم، وفق الحرية المفترضة لذلك! فقرر سارتر أن اليهودية سُلبت من حقها في الوجود الحرّ بسبب أن العالم، ومن ثم أوروبا، عاملهم بشكل جاهز، وأقرب لفكرة الصورة النمطية المسبقة القائمة على الاضطهاد، ومنعهم من تقرير مصيرهم، وأوروبا هي التي حرمتهم من بناء ماهية وجودية حرّة خاصة بهم! فإجمالا طبّق سارتر مفهوم الحرية الوجودية السارترية على المسألة اليهودية تاريخيا، واقعا تحت تأثير الدعاية الصهيونية، وقد عاصر اغتصاب فلسطين وطرد الفلسطينيين من وطنهم، لجوءهم، ومصادرة أراضيهم، والقتل اليومي الممارس بحقهم، ومصادرة حقوقهم وحريتهم الجماعية والخاصة، من دون أن يغير من وجهة نظره في ما يتعلق بالمسألة اليهودية، فهو مات عام 1980، متهما نفسه بأنه ماركسي، تماما كما الذين يسمون أنفسهم زيفا بالماركسيين الصهاينة، ناسين الحل الماركسي للمسألة اليهودية: ماركس، إنجلز، لينين، بالعيش والاندماج في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها. سارتر تعامل مع اليهود كـ»قومية»، شعب»، «أمة» وليس ديانة!
من ناحيتهم، حرص القادة الصهاينة على اعتبار الصهيونية «وجودية» مرتبطة بتقرير المصير، أسوة بتنظير هايدغر للنازية.
فمن حق إسرائيل طرد الفلسطينيين من أرضهم وقتلهم، فهي تدافع عن وجودها. فوفقا لبن غوريون، «فإن القوّة هي جوهر الوجود الإنساني ومبرّره، بل هي الوجود من الأساس» ويضيف: «إن الوضع في فلسطين لا يسوّى إلاّ بالقوّة العسكرية. وان إسرائيل لا يمكن أن تعيش إلاّ بالسلاح والقوّة. وعلى هذا الأساس فالحرب هي التي تقرّر مصيرنا كدولة، فإمّا أن أو أن تبقى». وفي المقابل يقول إسحاق شامير: «لا أؤمن بالحلول الوسط في ما يتعلّق بالأراضي. إن بلدنا صغير جداً، وهذه الأرض تتصل بحياتنا كلّها، بأمننا، بمياهنا وباقتصادنا. إن السلام والأمن متلازمان، كما أن الأمن والأرض والوطن كيان واحد». (شؤون عربية العدد 92 كانون الأوّل 1997). وهذا ما كرّره ويكرره أيضاً بنيامين نتنياهو من خلال مقولة «السلام في مقابل السلام والأمن في مقابل الأمن»، رافضاً الانسحاب من الجولان ومن الضفّة الغربية، وباتفاقه مع غانتس والعمل والأحزاب الدينية القومية الفاشية، سيجري ضم منطقة الغور وشمال البحر إلى إسرائيل في يوليو/تموز المقبل.
لكلّ ما سبق، ولأن المشروع الصهيوني في الأساس متجذر في الشخصية الاستعمارية للحركة الصهيونية وتجلياتها الإسرائيلية، وفي التوسع اللاحق، والاعتماد على القوة، ولو من خلال الفاشية، بنية بهذه المواصفات، لن تستطيع البقاء وجوديا، تماما مثل كل المشاريع الشبيهة الأخرى في التاريخ، التي كان مآلها الطبيعي السقوط.
كاتب فلسطيني
يقول ألدكتور فايز رشيد في ألفقرة ألثانية من مقال أليوم: ” في علاقاتها بالفلسطينيين وقعت اتفاقية أوسلو معهم، لتستغلها عمليا لإفراغ كافة الحقوق الفلسطينية من مضامينها، والتخطط لضم غالبية مناطق الضفة الغربية، والتنكر للقرارات الدولية المنصفة للفلسطينيين، بما فيها القرار رقم 194، المتعلق بعودة اللاجئين الفلسطينيين والبدء بالتطبيق الفعلي لصفقة القرن» التصفوية”. كما هو معروف أن قيام “أسرائيل” بمثل هذه ألأعمال قد أستمرت لأكثر من عقدين ونصف من ألزمن. أن ألسؤال ألذي يحًيرني هنا هو “ما هو سبب ألرغبة ألشديدة لعباس من ألمضي طوال هذه ألسنوات في مفاوضات عقيمة لا فائدة منها. يقال “أن ألمكتوب يقرأ من عنوانه” ولكن يبدو أن ألبعض من لم يسمع بهذه ألعبارة.