الأستاذ
عزت القمحاويالأستاذوالولد كان علي وشك الانتحار بسبب مدرس اللغة العربية. لا يذكر اسمه الآن، حقيقي لا يذكره، لكنه يذكر الكوابيس التي سببها له في وقت تكون فيه الدنيا ضيقة علي المراهق ـ من تلقاء ذاتها ـ كسم الخياط. كانت مدرسته مشتركة، وكان مغرماً بفتاة في الفصل. وكان وقع إهانات المدرس يتضاعف لهذا السبب بالذات. وأسوأ من ذلك فقد انتزعت فظاظة المدرس نصف منامات التلميذ التي كانت منذورة لرقة الفتاة وحدها. في لحظات القوة كان يستبدل خطط الانتحار بخطط أخري لتصفية الأستاذ جسدياً. العدو يصل إلي المدرسة يومياً من قرية أخري عدواً بين الحقول عبر طرق ومدقات متعددة. سيناريوهات القتل تراوحت بين الإغراق في الترعة أو شق البطن أو الضرب علي الرأس. لكن في كل مرة يخطط الولد لقتله يختار بالمصادفة الطريق الآخر.كان القدر يعمل لكي تتواصل التعاسة. الرجل الذي يتذكر الكهل الآن اسمه الأول فقط كان سميناً يلهث كذكر بط مزغط، تتلاحق أنفاسه من التخمة لا المرض ولا السن، فقد كان لا يزال في مرحلة الشباب، ويقول للولد ـ الذي صار كهلاً الآن ـ بينما يشير إلي جبهته: ستنام هذا العام وتتغطي حتي هنا! ويقارنه بقريب له في الفصل ينتظم عنده في دروس خصوصية بعد الظهر ويريده أن يتخذ منه قدوة له. ومن حسن حظ القريب أنه لم يتمسك بالشهادة الزور التي شهدها بحقه المدلس؛ فلم يكمل تعليمه وهكذا صار تاجراً كبيراً، أما الولد الأول في هذه القصة فعلي أبواب القنوط التام رأي العجواني الذي عاد من إعارة إلي ليبيا، وكأنه جاء خصيصاً من أجل إنقاذه من مصير ينفتح علي ممرات ومدقات معتمة. كان فصله من بين الفصول التي اقتطعت من الآخرين وأعطيت للأستاذ العائد، الذي ينبغي أن يفعل شيئاً ولا يجلس ضيفاً، علي الرغم من أنه وصل بعد أن قارب العام الدراسي علي الانتصاف. في الحصة التالية لأول تكليف بواجب في الإنشاء وصف الأستاذ للولد كلية الإعلام التي لم يكن سمع بها من قبل في تلك السن المبكرة. وبدأ الولد في قراءة كتب ما كان ليطالعها لو أن ليبيا تمسكت بالعجواني عاماً آخر، كما صار لديه شخص أكبر منه يمكن أن يحدثه عن أشياء ـ والعياذ بالله ـ مثل الحب! حظي الولد بأول صداقة حقيقية مع أستاذ في الإعدادية (الصف التاسع) وبدأ يكتشف نوعاً مختلفاً من المعلمين لم يصادفه من قبل. مدرس للغة العربية: رسام، خطيب مفوه، قارئ نهم للإبداع، وراوية ومؤلف جيد للنكتة. وبعد أن كبر الولد وصار من حقه أن يعرف أكثر، تأكد من سر السواد الذي يجلل أنامل الأستاذ، فهو يقضي لياليه مع زرقة الدخان البهيجة. ليس هناك إحصاء دقيق لمن أنقذ العجواني حياتهم أو مستقبلهم، لكن المؤكد أن الولد لم يكن الصديق الوحيد لأستاذ محبوب من كل تلاميذه، لم يقتصر أثره علي حسن تقديمه للمادة بحب ونزاهة ضمير، بل ساعد طلابه علي تلمس طرقهم واكتشاف مواطن التميز فيهم. وتحمل الأيام الولد إلي القاهرة طالباً في كلية الإعلام (الوصفة التي وصفها الأستاذ) ويبدأ التمرين في الصحافة ومحاولات الكتابة، ويختار من بحر البشر المتلاطم في العاصمة جودة خليفة بالذات، من دون أن يعرف في البداية أنه من نفس البقعة من الأرض. وعندما عرف لم يكن هذا الاكتشاف مهماً بالنسبة لأي منهما. لا الانتماء إلي قبيلة، لاأستذة ولا تلمذة تحكم علاقتهما، لكن شيئا يقول للولد الذي صار شاباً إن هذه الرقة صادفتك من قبل في حياتك. ولم يكن يعرف أن جودة خليفة هو النصف الآخر من طينة واحدة تشكل العجواني من نصفها الأول! تطلب الأمر سنوات ليعرف الولد أن صديقه الرسام والإنسان الأكثر عذوبة في العالم هو التوأم الروحي للمعلم الذي يدين له بحياته. وأنهما جزء من جيل تربي في سياق كان معظم أساتذته مثل العجواني في اتساع الثقافة ورحابة الأفق. وكانوا يتقاضون من عملهم ما يرضيهم فلم يضطروا إلي ابتزاز طلابهم كما تضطر الأجيال الجديدة من المعلمين التي فسدت بالإفقار المتعمد. لم يكن جودة ينزل إلي البلاشون ويبيت في منزل أسرته، بل لدي العجواني. يسهران حتي يبدو نور الصبح، فيقومان إلي نومهما. وعندما يقترب موعد خطبة الجمعة ويفتقد المصلون خطيبهم المفوه يذهبون إلي بيته ويدقون علي الشباك، وليس في الغرفة المطلة علي الشارع إلا الضيف.. يطل إليهم جودة نصف نائم: إيه الدوشة دي يا ولاد الـ … ويسألونه عن العجواني فينهرهم: خسئتم! ما العجواني إلا رجل من رجالكم، أفإن مات… اذهبوا وابحثوا عن خطيب آخر بلاش دوشة! كان اكتشافاً مدهشاً للولد أن يذهب بعيداً ليعود بالنصف الآخر للأستاذ، ولم يهنأ طويلاً بصداقة النصفين معاً. فاجأه الأستاذ كما فاجأ جودة ومضي. ولم يبدأ رحلته من المسجد كما يفعل سائر الميتين، بل من المدرسة. ملفوفاً بالعلم خرج العجواني علي أكتاف أجيال من تلاميذه.كان مشهداً مهيباً.. ولكن يبدو أن هذه الحميمية في الوداع لم تكن كافية من وجهة نظره؛ فلم يطمئن هناك إلا بعد أن نادي علي نصفه الآخر. ولم يتأخر عليه جودة أكثر من ستة أشهر. ولأن الولد الذي صار كهلاً دخل الحياة علي طمع، وينتظر منها لطفاً لم تجد به بعد، أقنع نفسه بأن العجواني اكتمل بجودة، وأنهما لم يعودا بحاجة إلي أحد. وأنه ـ حتي ـ ليس صديقهما الوحيد. 0