تعبير يخيم الظلام على بيروت، لم يعد يكتسب أي مسحة بلاغية، فالحقيقة، أن الظلام يلتهم بيروت، ولم لا؟ فأمراء الطوائف المتخمون فعلوا ذلك من قبل، وتركوا «ست الدنيا» غارقة في الحزن، وعلى الرغم من الوصف المكرور، إلا أنه ينطبق على بيروت في هذه المرحلة. توجد شرفات ونوافذ ترسل الضوء للشوارع المعتمة، وتفعل ذلك باستهلاكها للمازوت باهظ الثمن، وليس للدولة دور في ذلك، والمفارقة، أن الدولة أعلنت رفع أسعار تعرفة الكهرباء غير الموجودة إلا لماماً.
بيروت التي قصدناها في فصول متباينة من حياتنا باحثين عن الفرح والحرية، أصبحت مدينة تثقل القلب والروح معاً، وحصيلة 48 ساعة من الوجود هناك، مشاهد لأشخاص يبكون بحرقة، ليسوا متسولين، منهم امرأة خمسينية أمالت رأسها إلى حائط في الشارع، لم يكن بكاؤها شخصياً، بل ملأته العمومية الواضحة، أو هكذا كان يليق بالمشهد، وكأنها تبكي نيابةً عن الجميع، أما رؤية شخص يتكلم إلى نفسه بانفعال، فهذه لم تعد تثير الاستغراب. في المساء تتجول بين محطات التلفزيون اللبناني فتجد كل قناة تمارس الترويج للراعي الرسمي من بين أمراء الطوائف، وأكثرها ترويجا قناة وضعت شارة «معك مكملين» للترويج لفترة رئاسية جديدة للرئيس ميشيل عون، الذي كان مشهد بيروت الراهن تكليلاً لعهده غير الميمون، فالرجل الذي وصفه المطبلون بـ(بيّ الكل) أي أب الجميع، لم يكن في الحقيقة سوى أب روحي عاجز لمافيا تجريف لبنان، وسادن لاحتراقه المتواصل.
ليس من المنطقي، ولعله ليس من مصلحة أحد أن يترك لبنان للانطفاء التدريجي وأن تختزل جميع ألوانه في الأسود
ما زالت الطغمة اللبنانية التي أسست للزبائنية، ودمّرت قطاعات صناعية وزراعية واعدة، من أجل تقاسم عوائد إعادة الإعمار، تتحكم في المشهد وتأبى أن تشترك في تحمل المسؤولية، فالوجوه نفسها تتكرر والكوميديا التي تابعناها من قبل تحولت إلى كوميديا سوداء وعبثية، يقودها أشخاص يشبهون السياسيين، في شبه بلد يعيش شبه حياة. لا يتردد الساسة في المبالغة في قيمة حقول الغاز البحرية، ويطلقون الوعود التي حفظها اللبنانيون لكثرة استهلاكها من رئيس إعادة الإعمار رفيق الحريري، الذي تضخمت ثروته بشكل مطرد مع تضخم المديونية في لبنان، والحقل الذي باشرت (إسرائيل) استخراج الغاز منه قبل توقيع اتفاقية الترسيم ما زالت لبنان تنتظر الشركة الفرنسية التي ستحصل على معظم عوائده لتتحرك من أجل المباشرة في المنشآت. ماذا سيحدث بعد ذلك، مئات الملايين التي سيجنيها لبنان سنوياً، وكما جرت العادة ستتبخر قبل أن يستفيد أصحاب السلطة والنفوذ، وربما تصبح أصلاً سبباً لصراع جديد برسم الانفجار. شاعت استراتيجية قذرة بين الفاسدين، الذين يسرقون المستودعات، إذ كانوا يعملون على إحراقها لإخفاء سرقاتهم، وهو الأمر غير المستبعد، فالخراب والتهديد بالخراب هو ما يمنع اللبناني من الثورة، فيقف أمام ناظريه مرأى أبنائه وأحبائه الذين يمكن أن يتحول منهم اللحم والدم ليشبع ويروي حروب الهروب من المسؤولية والتنصل من دفع الثمن. أما الحل الممكن من أجل لبنان عربي – دولي، فلا توجد في الأرضية اللبنانية المقومات من أجل الإصلاح أو تعديل المسار، واللبنانيون رهائن في المنظومة التي لا تمتلك مقومات التحول إلى نظام، ولبنان الذي دفع ثمناً لحروب الوكالة وصخب المخابرات وجنون رجالها السيكوباثيين، يستحق اهتماماً من العالم يستحق تكفيراً جمعياً.
لم يعد الصراع في لبنان يثير غرائز الفروسية المتوهمة، فالتهافت أخذ يشبه التصارع بين الطيور الجارحة على جيف الفرائس، التي تركتها الدول الكبرى التي تجيد الهرب، فتلملم أذيالها في فيتنام وأفغانستان والعراق، وتترك وراءها الخراب. وهم الاستقلال في لبنان سيبقى يستخدم في غير موضعه وغير شروطه، من أجل الانفراد باللبنانيين ومواصلة الجثوم على صدورهم، والتغيير من الداخل يعني أن يتركوا في مواجهة طبقة يمكن أن تحرق البلد من أجل الهروب من استحقاقات الجرد والمحاسبة. لبنان هرب في 2019 من الصدام، ولم يمتلك شروطه أو أدواته سوى التشخيص الذي أطلقه جيل جديد من الشباب «كلن يعني كلن»، ولكن ليس من المنطقي، ولعله ليس من مصلحة أحد أن يترك لبنان للانطفاء التدريجي وأن تختزل جميع ألوانه في الأسود. أما من يرفعون شعار «معك مكملين» سواء للرئيس عون أو أي رئيس أو زعيم آخر، فالسؤال، إلى أين؟ فالاستكمال وفقاً لما تعيشه لبنان يعني خراباً محيقاً وأفولاً لا مناص منه.
كاتب أردني