تتشابك استعمالاتنا لعبارة رمز ومعانيها المختلفة، تشابكا تصدق عليه عبارة أمبرتو أيكو «الغابة الرمزيّة»، لكن لولا الرموز لما استطاع الإنسان أن يستوعب الكون في لغة من اللغات الطبيعيّة، التي هي رمزيّة لا ترابط في وحداتها المختلفة بين الدوالّ وما تعيّنه.
الرمز في مثلث شارل صندرس بيرس ثالث علامات ثلاث وهي، الرمز والإيقونة والمؤشّر. المؤشر علامة مباشرة أو مفصولة عن مرجعها الذي تربطها به علاقة تجاور، كالتي بين الدخان والنار، وحركة أوراق الشجر والريح، وشدة الحرارة والمرض؛ فالأوّل من هذه الأزواج الثلاثة دالّ يُرى ويكون دليلا على مدلوله المجاور له مجاورة حقيقية أو غير حقيقية. والمؤشّر لا يمثّل ما يدل عليه مثلما هو الأمر في الإيقونة أو في الرمز. الإيقونة هي علامة، علاقتها بما تمثّله علاقة تشابه مثل الصورة والمنحوتة. والرمز هو أيضا تمثيل، غير أنّ ما يربطه بما يمثّله هو علاقة تواضع قائمة على عدم التشابه أو على الاعتباطيّة؛ فليس في كلمة أخت ولا في صورة الحمامة التي ترمز للسلام ما يبرر استخدامهما لما يمثلانه. إنّ اللغة بطبعها رمزيّة طالما أنّها تربط وحدة لغوية بقطع النظر عن بساطتها أو تركّبها بدلالة أو بتصوّر، ويسمي أهل النحو من العرفانيّين هذا بالأطروحة الرمزيّة.
نقول هذا الكلام في سياق الاستدلال على أنّ الرمز في هذه الفوضى من الاستعمالات التي تجتمع في «الغابة الرمزيّة»، ليس نوعا من العلامات أو نوعا من الكلام الذي قد يستغلق على الفهم، ويغمض فلا تجد النفس الضعيفة إليه سبيلا؛ بل هو ههنا نوع من العلامات التي ليس لها علاقة تمثيلية (الإيقونات) أو تجاوريّة (المؤشّرات) بما تدلّ عليه؛ فالرمز يعمل بقانون أو بقاعدة تمرّ عبر من يؤلّها ومن يواضعه عليها.
ما يعنينا أكثر في هذا المقال هو نوع من الاستعمالات لكلمة «رمز» التي ترتبط بالأشخاص، هم يصبحون فجأة أو بقدرة رموزا للقيم وللسياسة وللعقيدة، منهم من لا تعمّر ثياب الرمز عليه طويلا ومنهم من يظل يلبسها دهورا.
الشخص الذي يصبح رمزا لشيء ما يعلو على التاريخ وعلى تفاصيله، لكنّه يبعد عن البشر أشواطا ويبعد عن المعاني التي في بشريّته ليصبح مخلصا لمعنى واحد.
من منّا لا يعرف حاتم الطائيّ الرمز، هو رمز الكرم في الحضارة العربيّة. رمزيّته هي التي صنعت تاريخيّته وليس العكس. لا يوجد في الأخبار ولا في الآثار ما يدلّ على أنّ هذا الطائي عاش في تاريخ معيّن؛ لكنّ اقتران اسمه بقيمة الجود، جعلت التسليم بواقعيّة الشخصيّة وبتاريخيّتها أمرا من تحصيل الحاصل. وأن يكون البشر رمزا لقيمة يختلف عن أن يكون الحيوان رمزا لها. يتّخذ الإنسان وعبر العصور رموزا حيوانية عن القيم فالأسد والنسر والعجل جعلت رموزا بشريّة للقوّة بأحوالها. هذه الحيوانات تصبح رموزا بأجناسها لا بأعيانها، فكل أسد هو قويّ وكل أسد يمكن أن يكون رمزا لهذه القوّة، تماما كما أنّ كلّ سفينة يمكن أن تكون رمزا للحرّية، ولا ترمز لذلك سفينة بذاتها. لكنّ البشر يصبحون رموزا للقيم بأعيانهم وليس بأجناسهم. ومن جهة أخرى يصبح لهذه الحيوانات دلالات التزام (أو استلزامات) بالإضافة إلى دلالاتها الوضعيّة التي كان يسمّيها الفلاسفة القدامى دلالة المطابقة. تنشأ دلالة المواضعة نشأة اعتباطيّة حين يُحتاج إلى التّسمية والتعيين؛ لكنْ تنشأ دلالة الالتزام حين تقترن بذلك الشيء المسمّى عقيدة مَا يتقاسمها الناس في ثقافة معيّنة، بناء على وقائع أو على تخمينات أو حدوس، كأن يُعتقد في ثقافة معيّنة أنّ النسر رمزٌ للقوّة أو البطش، بناء على تجربة ثقافيّة معيّنة يشاهد فيها النّسر وهو يمارس عادة من عاداته الحيويّة وهي الصيد. وعلى الرغم من أنّ النسر وهو يمارس تلك العادة غريزةً (إن لم يمارسها قضى جوعا)، فإنّ الإنسان يربطه برمز هو في الحقيقة تأويل ثقافي لسلوك غريزي. غير أنّ شيئا من هذا لا يحدث عندما يصبح الشخص رمزا، فرمزيّته جاءت من سلوك مثاليّ اعتقدت طائفة من الناس أنّه بالغَ فيه مبالغة من جهة النوع أو الكثرة لم يصلها غيره، اعتقدت طائفة من الناس ذلك وواضعتها أخرى تسليما وإيمانا ومجاراة. لكن ما معنى أن تحتفي ثقافة بشخص هو رمز للكرم؟ لا شكّ أنّ رمزيّة قيمة تعني الاحتفاء بها في تلك الثقافة. مهلا أليس هناك شيء ما كان يمنع من أن يصل فيها الإنسان إلى تلك الدرجة العليا من القيمة؟ هل هو الفقر؟ أم هو ضرب من الازدواج الغريب بين ما ترغب فيه النفس من الكمال، وما تنجزه لأجل تحقيقه: هو يرغب في الكرم قيمة لكنّه يجبن عن أن يكون كريما بالفعل.
حاتم الطائي هو اسم علمٌ فقد في اللغة معناه المعجمي (من الفعل حَتم أي أتقن وأحكم) وصار وهو يحمل اسمه رمزا، وحين صار رمزا للقيمة فقد اسم العلم علاقته الواسمة بمسمّاه، ليحيل على القيمة وهذا ننقل من رمزيّة لغويّة إلى رمزيّة ثقافيّة.
لننتقل إلى نماذج أخرى حديثة وقريبة منّا صارت رموزا لقيم إنسانيّة، ولنذكر مثلا غاندي رمز الكفاح التحرّري، ومانديلا رمزا للكفاح ضدّ الميز العنصري. كلاهما رمز لقيمة، وكلاهما قاد صراعا من أجل التحرّر من هيمنة. لا يمكن للرمز أن يصبح كذلك إلاّ بشرطين: أولهما الاتفاق أو المواضعة، وهذا يتطلب تحشيدا لمن يؤمن بأنّ هذا الشخص يتجاوز في فعله الكفاحي فعل الفرد إلى فعل المجموعة، فكأنّه وهو يكافح يفعل ذلك باسم الناس. إنّ المواضعة التي هي شأن عددي وعلامة على الغلبة، تدلّ على أنّ الأصوات التي قلّدت هذا الزعيم أو ذاك تاجه الرمزي، هي الأغلب في هذا العالم. ففي انتصار الرمز انتصار للجهة المحتفية به وهي الجهة المنتصرة للتحرّر.
والشرط الثاني أنّه لا يمكن للرمز أن يصبح كذلك إلاّ في حالة النجاح المستحيل، أو المتعذّر: هل كان مانديلا سيصبح له هذا الصيت الرمزي العالمي إن هو لم ينجح نجاح أبطال الأساطير: من السجن إلى الرئاسة؟ حين يتقرّر أنّ غاندي هو رمز للتحرّر السلمي (بواسطة العصيان المدنيّ) وحين يصبح ذلك الرمز عالميّا، فعندها لا يحتاج هذا الشخص مرسوما سلطانيّا أو ملكيّا لأنّه صار عقيدة. ولمن يرون غاندي رمزا للسلام فإنّ رمزيّته لهذه القيمة لن تنافس رمزيّة الحمام لها، سيكون الحمام أوغل تجريدا في هذه الرمزيّة، لأنّ الشخص- رمزا للقيمة – يظل يحمل فيه بشريّته بينما يصبح الطائر -وهو رمز للقيمة – أغرق في التجريد.
الشخص الذي يصبح رمزا لشيء ما يعلو على التاريخ وعلى تفاصيله، لكنّه يبعد عن البشر أشواطا ويبعد عن المعاني التي في بشريّته ليصبح مخلصا لمعنى واحد. وكلّما شاعت رمزيّته بين الثقافات، كانت أكثر تأثيرا وحضورا. نحن طبعا لا نتحدّث في هذا السياق عن تلك الرموز التي ينصّبها المتزلّفون للساسة، ويصنعها الإعلام الباهت والساعون في كل ركاب ينصبونها على الرقاب، هي بكل تأكيد ألقاب لا ترتقي إلى درجة الرمز، لأنّها ألقاب زائفة وزائلة لا محالة: إن كان من وضعها لا يصدّقها فكيف سيواضعه عليها غيره؟
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
/الشخص الذي يصبح رمزا لشيء ما يعلو على التاريخ وعلى تفاصيله، لكنّه يبعد عن البشر أشواطا ويبعد عن المعاني التي في بشريّته ليصبح مخلصا لمعنى واحد/..
منطقيا، الشق الثاني من هذه العبارة المنتقاة إعلاميا هي استدراك تفسيري أو تعليلي للشق الأول.. بناء على ذلك كان على الشق الثاني أن يبدأ بأداة الاستدراك التفسيري أو التعليلي “لأن” لا بأداة الاستدراك الخلافي “لكن”..
/الشخص الذي يصبح رمزا لشيء ما يعلو على التاريخ وعلى تفاصيله، لأنه يبعد عن البشر أشواطا ويبعد عن المعاني التي في بشريّته ليصبح مخلصا لمعنى واحد/.. !!
خاصة وأن اللسانيات معروفة بتوخيها الدقة المتناهية في التعبير المنطقي.. !!