بدأت الإستعدادات للتصويت على تعديلات الدستور المصري المزمع إقامته منتصف كانون الثاني/يناير القادم، بعد أن قامت لجنة تعديل الدستور المصري بعملها على الوجه الممكن، لا على مستوى طموحات الثورة.
لا يمكن إنكار حجم التقدم في الدستور القادم. أزالت التعديلات ألغام الدولة الدينية البحتة التي حاول دستور الإخوان تكريسها، من دون أن تقترب من المسحة الدينية لنظام الحكم التي حرص نظام تموز/يوليو على وجودها بدرجات تعلو أو تنخفض عند قمة الهرم السياسي، لكنها متغلغلة في أداء مؤسسات الدولة وفي معتقدات البشر، وقد كرسها دستور السادات بالمادة الثانية التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. ولم تقترب التعديلات من وضع ميزانية الجيش وإجراءات تعيين قادته، وهذا الإقتراب هو الإستحالة الثانية في ظل حجم دور القوات المسلحة في المجتمع المصري وفي ظل توازنات المرحلة وخبرات السنة الإخوانية.
هو الدستور الممكن إذاً في هذه المرحلة. وكل الدساتير تأتي محصلة لقوى المجتمع في لحظة إعدادها. وأفضل النصوص لا تستطيع العيش وسط مجتمع لا يؤمن بها، وأسوأها لا يستطيع إنقاذ نفسه عندما تتغير توازنات المجتمع، ناهيك عن أن يحمي حاكمًا أو نظامًا.
هكذا لم تستطع لجنة التعديل المساس بالثوابت، مع ذلك تقوم الفضائيات المصرية بحملة دعاية للـتصويت على الدستور، باعتباره تصويتا على ثورتي 25 كانون الثاني/يناير و30 حزيران/يونيو، وهذا يجعل تلك الحملة واحدة من أغبى حملات الدعاية في عصر الإعلام الجماهيري، فلا الدستور يعبر عن الثورتين، ولا الثورتان متشابهتان، ولا أداء الحكومة يذكر بوجود الثورتين أصلاً!
25 كانون الثاني/يناير ثورة شعبية مدنية، بكل ما تعنيه آفاق الثورة المدنية من تطلع إلى الحرية والمساواة والعيش الكريم، لكن سلسلة التواطؤات أخذتها إلى الوجهة الأخرى تمامًا، ولم يعد العيش الكريم والحرية مهددان فقط، بل صار وجود البلاد بحدودها المعروفة مهددًا كذلك. ولهذا جاءت 30 حزيران/ يونيو فضفاضة أكثر، لأن هدف تثبيت أركان الدولة تقدم كل الأهداف، الأمر الذي سمح بوجود من قامت ضدهم الثورة الأولى، مثلما سمحت ترتيبات ما بعد خمسة وعشرين كانون الثاني/يناير بافتراض أن أية قوة دينية يمكن أن تكون ثورية!
عقب كل من الثورتين بدأت تمارين ابتلاع الثورة بمطالبها، وبافتراض حسن النوايا، فما جرى ويجري هو محاولات فاشلة لتثبيت زعيم ملهم مؤيد من جماهير غفيرة على أرضية حراك قوامه الفرد الواعي لا القطيع الهائج.
المضحك في الأمر أن هذه المحاولات الخرقاء لا تهمل التغيير الذي طرأ على وعي الجماهير فقط، بل إنها لا تدرك كذلك المسافة بين الزعيم الملهم والرسم الكارتوني لذلك الزعيم. وهذه الهوة الشاسعة بين الزعيم وكاريكاتير الزعيم لا تردمها الأغاني الوطنية ولا الأوراد الدينية!
الاقتطاع من أملاك كبار الأثرياء لصالح أقنان الأرض بموجب قانون الإصلاح الزراعي تم بعد 45 يومًا من حركة الضباط في 23 تموز/يوليو 1952، حركة التصنيع الضخمة استوعبت الطبقة العاملة، والمستشفيات والمدارس بدأ بناؤها في ذات اللحظة في أكثر من ألفي قرية مصرية، كل هذا جعل من عبدالناصر ما هو عليه، زعيمًا للغالبية الكاسحة من المصريين، بل ورمزًا لحلم العدالة والتحرر لدى كل العرب، ترفع الجماهير سيارته فوق أكتافها وتحميه بصدورها ولا تتزعزع مكانته بالنكسة القاسية في 1967، بينما انطوت لحظة شجاعة الرئيس الإخواني عندما فتح جاكيت بدلته ترحيبًا برصاصة محتملة في ميدان التحرير، وصار يدخل إلى سرادقات الأهل والعشيرة تهريبًا من الأبواب الضيقة، وصار يتعرض للاعتداء اللفظي في أكثر الأماكن وقارًا: المساجد وسرادقات العزاء!
وبينما تطلبت إعاقة انطلاقة عبدالناصر عام 1956 توحيد أضخم ثلاث قوى استعمارية في تلك اللحظة (إنجلترا وفرنسا وإسرائيل) لم يتطلب تعويق محمد مرسي أكثر من عشرين جنيهًا، رشوة لعامل في محطة الكهرباء لكي يرفع السكينة ويقطع التيار فيثير سخط الناس ضد الرئيس، هكذا اعترف محمد مرسي في آخر خطاباته، وعد على أصابع يد واحدة حفنة بلطجية يعرفهم بالاسم يعملون على إفشال حكمه!
انتهى مرسي بذم عدد محدود من البلطجية في خطابه الأخير، بينما كان قد بدأ ببذل الحب كله والمديح كله للشعب كله في خطابه الأول: أشاد بالجيش والشرطة وبكل أصحاب المهن والحرف، ومناطقيًا أشاد بكل المحافظات والمدن والقرى والنجوع، كاد أن ينادي كل مصري باسمه. لكن حلاوة القول لا تمسح وحل الواقع ولا تصلح وحدها مسوغًا لسكنى القلوب.
الإيقاع بشعب ليس في سهولة الإيقاع بامرأة. ويبدو أن كل من يطمحون إلى حكم مصر لا يعون هذه الحقيقة البسيطة، لا يقرؤون التاريخ، ولا يتأملون ما عاشوه للتو.
كانت الخطوة الأولى المفترضة على طريق العدالة الاجتماعية هي وضع حد أدنى وأقصى للأجور طال انتظاره، لكنه خرج أخيرًا كضرطة تسخر من الثورتين. سلم القياس لا مثيل له في لوائح الأجور بالعالم (واحد إلى خمسة وثلاثين بين الأدنى والأعلى) دون تحديد كيفية التعامل مع الشريحة الكبيرة بين الحدين، والأكثر إدهاشًا هو استثناء معظم المؤسسات والهيئات التي تعاني من الخلل الفادح والاكتفاء بتطبيقه على القطاع الحكومي الضيق الذي لا يمثل التفاوت مشكلة ضخمة فيه.
هذه العدالة المجهضة مجرد مؤشر واحد على بقاء وحل الواقع في مكانه. وسوف يحصل الدستور على نسبة موافقة كبيرة، لا بوصفه تمثيلاً للثورة، بل لمجرد الإنصراف إلى خطوة تالية.
لكي الله يامصر ، ونرجوا أن لا نستبق الأحداث.
وحل الواقع …
صدقت.