في أتون الحرائق الهمجية، التي ينتشي الكيان الصهيوني بإضرامها على مدار الليل والنهار في فضاءات غزة، وحيث تحتدم نيران الحرب الإعلامية التي تمسك المركزية الغربية بزمامها» وهي منابر منحازة للكيان الصهيوني، «سيكون علينا وبغير قليل من المرارة، استحضار شعار «حرية التعبير» الذي يبدو حاليا محاطا بالشبهة أكثر من أي وقت مضى، ومشحونا بمفارقات وتناقضات، يحار التأويل في سبر ما قل من أغوارها، ذلك أن دلالة الشعار المعبر عنها في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمتمحورة أساسا حول مطلب حرية الرأي والتعبير، تطالعنا خلسة، وقد غدت ضحية لعاصفة الإعلام الغربي، المتماهية كلية مع أطاريح الكيان الصهيوني، وهي ترشح بما يكفي من ادعاء المقولات الحقوقية، الموهمة عبثا بانتمائها إلى مرجعية الأفق الديمقراطي الموعود والمنتظر.
وغني عن الذكر، أن دلالة مفهوم حرية التعبير بشكل عام، تظل محض رسم غامض وملتبس على سديم الظن والاحتمال، ما لم تتجاوز حدودها التجريدية والترميزية، كي تتموضع في سياقها العملي الواقعي والملموس، خاصة حينما يكون المفهوم المعني بالتساؤل، مثقلا بحمولته التاريخية، الطافحة بالصراعات والتناحرات الدينية، السياسية أو العرقية. والسياق الذي نحن بصدده المتعلق بشعار/مفهوم «حرية التعبير» باعتباره الإطار الطبيعي للاحتفاء بهوية الكائن المتطلع إلى ممارسة حقه في الوجود، لا يكشف عن ديناميته إلا من خلال وضعه على محك الممارسة، التي تسمح لنا بالتعرف على طبيعة أدائه الفعلي في الواقع المعيش، ذلك أن استبعاده من سياق الممارسة المادية والملموسة، من شأنه إضعاف شحنته، وتعقيد آلية توصيل دلالته، وكلها عوامل من شأنها تعطيل وظيفته المنوطة به. وهي الحالة التي لا يلبث المفهوم أن يلفظ فيها أنفاسه تدريجيا، ليتحول إلى مجرد رسم مفرغ من دلالاته، كما سبقت الإشارة لذلك. وتلافيا لوقوع المحظور، سيعمد الفاعلون في «المشهد الحقوقي» المفترى عليه، التسريع باستحداث الإطار الكفيل بالإبقاء عليه حيا يرزق. ومن الواضح أن الإطار الأكثر نجاعة لإنجاز هذه الغاية، لن يكون سوى شعار «معاداة السامية» الذي يوضع في الجهة المضادة لتوأمه النقيض، المجسد في الإسلامفوبيا، ذلك أن المفوضين الساميين الذين يتربعون على عروش المنابر الدولية لحقوق الإنسان، لا يدخرون جهدا في تنزيل مقولة «معاداة السامية» من تعاليها النظري، كي تأخذ مجراها المجسد في الفضاءات الدولية العامة، منذرة بخطورة تفاقمها، على إيقاع تصاعد ظاهرة «الإسلامفوبيا» المؤدية حتما، حسب وجهة نظرهم دائما، إلى تأجيج الاضطرابات التي من شأنها إذكاء نيران ما يتعارف عليه بالحروب الحضارية، ورغم ملامح الروح التبشيرية التي تلوح بين تفاصيل هذه النداءات وهذه الخطابات، إلا أنها لا تتجرأ مطلقا على الكشف عن مكامن الجرح، ومكامن العلل والأعطاب، المؤدية إلى استفحال أمر الظاهرتين معا «معاداة السامية مقابل الإسلامفوبيا» تخوفا من احتمال ظهور مؤشرات شلل عاجل يتهدد ألسنتهم، فور تفكيرهم في جدوى الإشارة من قريب أو بعيد لجوهر الصراع الفلسطيني الصهيوني. ما يجعل من خطاباتهم نصالا متوحشة، ومشحوذة بعناية فائقة لتقطيع أوردة القيم الحقوقية، حيث لا مجال للتلويح بما هو إنساني، أو لما هو مندرج ضمن بنود القوانين الدولية.
ومن خلال مراجعتنا للمواقف المشبوهة، المتبناة من قبل الأنظمة الغربية تجاه ما يحدث حاليا من مجازر في غزة، نتأكد وبالملموس من كون التدابير المتضمنة في خطاب الكراهية المعتمد من قبل الأمم المتحدة 18 حزيران/ يونيو1919، يهدف أصلا إلى حماية الكيانات الهيمنية، حيث يتبين لنا، أن تعميم الحديث عن مستويات الكراهية وملابساتها، لا يعدو أن يكون في الواقع ذريعة للتعمية والتضليل. وهنا تحديدا، يمكن الاهتداء إلى وجه الكراهية الحقيقي الثاوي خلف قناع حرية التعبير، والفاعل بشكل مباشر في توجيه وتأطير دلالاته، ذلك أن الكراهية بوصفها النزوع العدواني الأشد شراسة، وبوصفها حالة متوحشة من الحقد العنصري على الآخر، والسعي بكل الوسائل اللابشرية إلى إقصائه من المشهد، تستمد هويتها من صلب حاجة الغرب المرضية للتمركز حول الذات، بما تعنيه الكلمة من إلغاء متطرف لأي حضور محتمل للآخر، وتحت غطاء كل الذرائع الممكنة، التي تجعل من هذا الإلغاء شأنا مشروعا وقانونيا، ومنزها عن أي شبهة أخلاقية أو حضارية. وكلها عوامل تؤدي حتما إلى القذف بسدنته خارج مدارات كل ما له علاقة من قريب أو بعيد، بالأزمنة الروحية والأخلاقية، التي دأب مفكرو ومبدعو الإنسانية على رعايتها، وتعميق الوعي بها.
نخلص من ذلك، إلى أن دلالة حرية التعبير المتبناة من قبل المراكز الغربية، والمتداولة بالكثير من التبجح في منابرها الرسمية، ليست في نهاية المطاف سوى أداة قمعية، موجهة إلى باقي شعوب العالم الموجودة في هوامش وفي أطراف هذه المراكز، حيث بوسع هذه الأخيرة أن تتحرر من أي التزام أخلاقي أو حضاري، في حمى وسعار تعريضها المبيت والأهوج، بخصوصية الذات العربية الإسلامية، على سبيل ما تعتبره نقدا موضوعيا، ومندرجا ضمن سياق ممارسة مقولة الحق الطبيعي في حرية النقد والتعبير. والتأكيد على البعد القمعي هنا، ينبثق من التاريخ الاستعماري، الذي يلزم الغرب على جرجرته خلفه، دون أن يقوى على التملص منه، ومداراة حقيقته المتمنعة على أي تشكيك محتمل. وهو تاريخ مثقل بكل أصناف الأذى التي لم تسلم الشعوب النامية بعد من عذاباتها وآلامها، رغم مرور عدة عقود على تحررها. وفي الواقع، إن ما يحدث حاليا في غزة، هو صورة نموذجية للمجازر التي دأب الغرب الاستعماري على التفنن في ارتكابها داخل كل بقعة من خريطة العالم العربي الإسلامي، وعلى امتداد تاريخه الاستعماري الرهيب. ومن المؤكد أن هذه المقارنة التي لا نتردد في استحضار ذاكرتها، وهي تنضح بكل المآسي التي يعاينها العالم قاطبة في جحيم غزة، تضعنا بشكل مباشر في أحراش الطبيعة المتوحشة للمستعمر، مهما استمات في تقمصه للمسوح الإنسانية والحضارية، المعبر عنها بمواثيق حقوق الإنسان.
إن الأمر يتعلق هنا بتحالفات متواطئة ذات نزوع غابوي، بالمفهوم الهمجي للكلمة، والمفتقر إلى الحد الأدنى من بعده الأخلاقي والإنساني، حيث يستفيق العنف الاستعماري في دواخل سدنته، مشحونا بكراهية عنصرية دموية ومتطرفة لا مثيل لها. عنف إقصائي مقبل من فجر الصراعات العرقية والدينية القديمة، التي تتحين فرصتها الملائمة كي تنفجر من جديد في وجوهنا المكشوفة لقنابل الغزاة. وهي وضعية تستدرج الغرب الاستعماري تلقائيا، كي يرى معها ذاته عارية أمام مرايا التاريخ، وكي يسترجع ضدا على تناسبه ما أنجزه من بطولات خارقة في مجال القتل والتدمير. وكلها عوامل من شأنها إضفاء غير قليل من الالتباس على شرعية منتظمه الحقوقي والقانوني، الذي يعمى عن ضبط دلالات المفاهيم المندرجة في خانة الإبادة، فلا يعنى برؤيتها إلا في المواقف المنسجمة مع مصالحه الهيمنية، والمنسجمة مع جحيم خروقاته الوحشية الثاوية في ذاكرته. إنه في حالة «طوفان الأقصى» يحتفي أولا بتجديد ذاكرة طقوس القتل، فيما يغفل/ ثانيا، عن استحضار أي من المواثيق المعتمدة من قبل المحاكم الجنائية في معاقبة مرتكبيها، حيث يبدو العالم من وجهة نظره العمياء، مطمئنا إلى وضعه الطبيعي والاعتيادي، وهو يغرق دونما رحمة في دماء قتلاه، مدثرا تماما بأشلاء الجثامين، ومنفصلا كلية عن كل ما له صلة من قريب أو بعيد بالقيم الإنسانية.
لذا سيكون من الضروري، طرح تلك الأسئلة الأكثر حرقة، والمتعلقة بمصائر كل تلك النصوص الدينية والفلسفية والقانونية، التي أقرتها السماء والأرض، بحثا عن أفق إنساني ما، يهتدي به الكائن إلى ما قل ودل من أوهام كينونته المغيبة.
شاعر وكاتب مغربي