الأمر بالتعقّل، والنهي عن النضال والتّذكُّر

لا نبالغ إذا قلنا إن النظام العربي، الذي مهد لنكبة فلسطين وشارك فيها بجيوشٍ، أول ما فعلته عندما عبرت حدود فلسطين عام 48 هو تجريد الفلسطينيين من أسلحتهم؛ لا نبالغ إذا قلنا إن هذا النظام، ومعه العدو الصهيوني، لم يتخيلا قط أن هذا الشعب قادر على الحياة إلى هذا الحدّ، بل إنه غير قادر على شيء أكثر من قدرته على مواصلة الحياة والتجدّد. وها نحن نرى هذا النظام الذي انتظر موت فلسطين، فكرةً، وشعبها بشرًا، قد وصل إلى حالة من الهيجان الجنوني، ونحن نراه اليوم يخلع كل أقنعته ويُطلق العنان للأصوات النابحة هنا وهناك، كي تُفتي في فلسطين، وتلعب دور بلفور الجديد، الذي لعبه بلفور، ويلعبه ترامب، ويواصل البلفوريون العمل على أدائه ككائنات مسعورة تابعة، مرة تؤكد حق الصهيونية في قدسنا، ومرة تؤكد حق الصهيونية في جولاننا، ومرة تؤكد حق الصهيونية في حصة غير محدودة من دم أطفالنا، في كل شبر من فلسطيننا التاريخية.
لقد ظن هؤلاء أن فلسطين وتاريخها وشعبها سيتحوّلون إلى فكرة غائمة في كتاب التاريخ لمجرد أن فلسطين احتُلت وشعبها طرِد، وظنوا أن تاريخها سيغدو في مهب الريح لمجرد أنهم، بعد أن لاكوا اسمها في خطاباتهم، ولحمها في مؤامراتهم، ونضالاتها في نشرات أخبارهم، ثم بعد أن حوّلوها إلى خبر سابع، ظن هؤلاء أنها ستنتهي، لكن فلسطين لم تستطع ذلك، وتجدّدت.
لقد حصل جزء كبير من الأنظمة العربية على حصته من دم الفلسطيني، بعد العدو الصهيوني الذي كان ضيف هذه الأنظمة على مائدة القتل والمذابح، من قبْية، إلى دير ياسين، إلى الدوايمة والطنطورة وسواها. ليأتي دور هذه الأنظمة في مذابح الشتات مواصلة الدرب! ولم يكن لها سوى هدف واحد: أن لا يكون للفلسطيني مكان يطلّ من سفوحه على أرضه.
اليوم، وأمس، وغداً، ونحن نعيش مسيرات العودة ويوم الأرض، والأقصى، وكل أشكال المسيرات التي قد يقوم بمثلها، وحيداً وأعزل، فتى فلسطيني مثل عمر أبو ليلى، أو بهاء عليان، أو عهد التميمي الزهرة التي تفتحت وسط النار، كما تفتّح أطفال الآر بي جي وأطفال الانتفاضات الفلسطينية؛ اليوم، نجد أن جنون النظام العربي تضاعف، ونباح جرائه في أفنية الذلّ تصاعد أكثر، وعناقه للقتلة أصبح أكثر علانية، وأبوابه أصبحت أكثر اتساعاً وعلوّاً، كي يعبرها القتلة دون أن يكونوا مضطرين لإحناء رؤوسهم.
والحقيقة، لا شيء مفاجئ، وإن كانت بعض الأنظمة العربية قد أتقنت لعبة التخفّي، وناورت، وتصاعد صوتها مستنكراً ومندّداً وغاضباً لضرورات الأدوار التي تلعبها. كل جريمة يرتكبها النظام العربي كانت لها مقدماتها في كل عاصمة، حيناً بالصمت، وحيناً بالتخفّي، وحيناً بأمر الفلسطيني أن يتعقّل، وحيناً بنهيه عن النضال، وصولاً لنهيه عن التذكُّر، والسعي المجنون لطرده من ذاكرته، وطرد ذاكرته منه.
بعد 71 عاماً من النكبة، لا نبالغ إذا قلنا إن النظام العربي وقف مع العدو الصهيوني جنباً إلى جنب في الحرب ضد كل ما يتطلع للحرية، ليس في فلسطين وحدها، بل داخل حدود هذا الوطن العربي، مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، ومرة بتدمير المدن على رؤوس أبنائها، كلما تفتحت وردة الحرية في أزقتها، في عيون أطفالها، أو خصلات شعر فتياتها.
كنا نردد في طفولتنا ذلك القول المأثور «أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض»، ولكن الحقيقة أثبتت أن كل الثيران ذُبحت في اللحظة ذاتها، وكل ما حدث أن هناك من اكتفى بلحم الثور الأبيض في ذلك الحين، وجهّز لحوم الثيران الباقية لتكون جزءاً من موائده على مدى سنوات وسنوات، بالتجميد أو بالتعليب أو بالتقديد، إلى أن وصلنا إلى زمن يتوسل فيه الثور أن يُذبح في غير عاصمة يتم تسليم مفاتيحها اليوم لأعتى أنواع القتلة وأشدهم عنصرية وجشعاً ومناداةً بطهارة عرقهم وهم يضعون أنفسهم فوق شعوب الأرض كافة.
لقد ارتكب النظام العربي واحدة من أكبر الجرائم، وأطولها عمراً، وهو يخدع الفلسطيني، ويتاجر بدمه، ويذبحه، ويحشره في أضيق الزوايا، ويشرّده من بلد إلى بلد، ويحرمه من أبسط متطلبات العيش، ويشوّه صورته كما لو أنه سيبتلع أوطان الآخرين، وتعامل معه كبضاعة عابرة للحدود، مع أن الفلسطينيّ بنى في كلّ مكان وصل إليه، وعلّم، وساهم في أن تكون كثير من البلدان، على ما هي عليه اليوم.
أما أسوأ ما وصلنا إليه، فهو أن كثيرين من أولئك الذين باتوا يتناسلون أوبئة في عواصم الهرولة نحو العدو الصهيوني، باتوا يطالبون الشعب الفلسطيني أن يعتذر لأنه لم يزل حياً على قيد كرامته وبهائه وعنفوانه وذاكرته، وهو يواصل مسيرته نحو وطنه الذي فيه، وهم يقولون له:

.. ألا أيها المُبتَلى بدماك
لا تكن ههنا
لا تكن ههناكْ
وكن أيَّ شيء سوانا
وكن أيَّ شيء سواك!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة فلسطين الصين:

    ما هذا .. وكأن شيئا لم يكن .. المعزوفة القديمة لمسؤولية “النظام الرسمي العربي” ، هذا بالتأكيد بها شيئ من الحقيقة لكن ليس كلها . يبدو لي ان الغرام والشغف في هذه النظرية مرده أسباب نفسية اتكالية يرتاح ويستكين اليها كثير من الفلسطينين لسببين ، الأول انها تقدم مجانيا وبلا تكلفة شعور وطني مرتفع ونبرة نضالية مهرجانية من خلال لعب دور الضحية وإلقاء اللوم على الآخرين ، والسبب الثاني انها توفر خدمة الإعفاء من المسؤولية عن الأخطاء التي ارتكبوها هم في حق مسيرتهم وحركتهم الوطنية. على سبيل المثال لا الحصر – وحتى لا نتكلم عن الأخطاء التي ارتكبت في حق الوطنية الفلسطينية الحقة في الأردن ولبنان وسوريا – هل النظام الرسمي العربي هو أيضا المسؤول عن الانقسام بين الضفة وغزة من اكثر من عشر سنوات . اكثر من ذلك ، لطالما كان مثيرا عندي ملاحظة الدوافع الشخصية وألانا العالية والفردانية المتمركزة على الذات بشكل مطلق عند معظم المغرمين بهذه النظرية خاصة المثقفين والإعلاميين منهم ، ولهذا برأيي من الضروري والمفيد ان يطرح الفلسطينيين فيما بينهم نقاشاً علمي وشفاف وصريح عن ماهية ” الوطنية الفلسطينية ” الحقة ، والتواضع قليلاً في خطاب البلاغة والحماسة ، فلسطين ليست مهرجان خطابي .. هي سيدة الأرض

  2. يقول سوري:

    أيها الجريح بنواجذ أخيك
    أيها المبتلي بدماك
    نهبوا ارضك وصادروا سماك
    وغرسوا المدية بصدر أبيك
    كن هنا
    وكن هناك
    وكن انت انت
    ولااحد سواك

  3. يقول سوري:

    استاذ نصر الله
    كلام صحيح ينبع من قلب جريح
    لاعدمنا قلمك

إشترك في قائمتنا البريدية