تعتبر الأنثروبولوجية السعودية ثريا التركي، واحدة من اوائل الباحثات الخليجيات والعربيات، اللواتي انشغلن في فترة السبعينيات بالنظريات الأنثروبولوجية، في الوقت الذي كانت فيه الساحة العربية تنظر لهذا الحقل نظرة إما استغرابية، أو تشكيكية، من خلال وسم العاملين فيه بالعمل مع الاستعمار. وعلى الرغم من أن عقوداً مرت على هذه الرؤية العربية الضيقة للحقل، فإن اللافت للنظر أن هناك من ما يزال يردد هذه العبارات حول علاقة هذا الحقل بالاستعمار، أو من خلال تبديل هذه الدعوة بالقول مثلا إننا بحاجة إلى أنثروبولوجيا عربية، أو علم اجتماع عربي، دون أن يكون مزودا بالمقابل بمعرفته للواقع، والنظريات، أو حتى ما يكتبه الأنثروبولوجيون الغربيون عن بلدانهم. لكن وبالعودة للأنثروبولوجية السعودية ثريا، فربما ما ميزها، أنها أبدت في وقت مبكر اهتماما وحماسا شديدين بخصوص أهمية البحث الإثنوغرافي في المنطقة العربية، لقدرته على جعل المنطقة قادرة على تجاوز فكرة الضحية. فهي خلافا للرؤية التشكيكية بهذا الحقل، تعتقد أن حقل الأنثروبولوجيا قد يفيد في فهمنا الأعمق للواقع العربي، ما يساهم في فهم إشكالياتنا ومستقبلنا.
وعلى الرغم من أن ثريا أصدرت عددا من الأبحاث والكتب المهمة، إلا أنه ربما سيتأخر تعرف القارئ عليها حتى التسعينيات مع ترجمة كتابها (عنيزة: التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية)، الذي كتبته بالتعاون مع الأنثروبولوجي الأمريكي دونالد كول، وترجمه الراحل جلال أين. وقد حاولا من خلاله دراسة التحولات التي شهدتها حياة النساء في السعودية، من خلال حيوات بائعات سعوديات في سوق عنيزة ( مسقط رأس عائلتها) يعملن في بيع التوابل والطعام المجفف، وقد وجد كلا الباحثين أن التراجع الذي عرفه حضور المرأة في المدينة السعودية، لا يعود فحسب لسيطرة الفكر الوهابي، فحتى الستينيات تقريبا بقيت نساء عنيزيات عديدات يعملن في أسواق المدينة، ويبعن للعامة. وبالتالي فإن هناك عوامل أخرى مثل التغيرات الحضرية، التي ساهمت بشكل او بآخر في حصر النساء في المنزل، وتراجع حضورهن في الفضاء العام. بعد هذا الكتاب، صدر لثريا التركي في العالم العربي كتاب آخر عن جدة بالتعاون مع السوسيولوجي السعودي أبو بكر باقادر، وقد حاولا في هذا الكتاب أيضا دراسة حياة النساء في هذه المدينة. المهم أنه مع صدور هذين الكتابين، ومجموعة أبحاث أخرى بالعربية، أصبح اسمها مألوفا في الأوساط العربية، مع ذلك فإن سيرة هذه الباحثة بقي غامضا، خاصة على مستوى بداياتها الأولى وكيف التحقت في وقت مبكر بحقل الأنثروبولوجيا. مؤخرا، وفي سياق اهتمامها بنشر تجارب كتاب عرب أو أوروبيين عاشوا في مصر، قامت دار الكرمة بنشر سيرة ومذكرات التركي تحت عنوان «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا».
حياة الطفولة:
جاهدت التركي في هذه الذكريات أن يكون منسوب الصراحة في أعلى معدلاته، وعرضت سيرتها كما هي من دون تجميل أو «رتوش». تبدأ فصولها الأولى من حياة الطفولة، وتاريخ أسرتها التي تعود كما تذكر لمدينة عنيزة. كان والدها قد عمل في التجارة، وبالقرب من الملك عبد العزيز في الأربعينيات. ويبدو ان العائلة وبحكم تجارة الوالد، انتقلت للعيش في مدينة جدة. وفي هذه المدينة، تظهر النساء أكثر معرفة ووعيا بالعالم مقارنة ربما بباقي نساء السعودية، وهو ما ترده ثريا التركي إلى كون إقامة عدد من العائلات السعودية بشكل مؤقت في مصر وغيرها في السنوات الأولى من عمر المملكة، ما أدى إلى تعرض هذه العائلات للتأثير الثقافي الخارجي، الذي أوصلها في نهاية المطاف إلى تبني بعض القيم الوافدة على مجتمع الحجاز. فالنساء على سبيل المثال، اكتسبن طريقة جديدة في الملبس والمأكل من إقامتهن في مصر، وعلى الرغم من أنهن حافظن على ارتداء الحجاب في الخارج، فإنهن قد عدلن من شكله واستخدامه، كما انفتحن على المغنى والطرب وارتياد السينما والمسارح في القاهرة، وكذلك عادة التسوق من المحال الكبرى مثل شيكوريل وعمر أفندي، والانخراط في نمط استهلاكي جديد.
تخبرنا التركي أن والدها كان رجلا محافظا، على عكس والدته التي كانت تمتلك صوتا جميلا، مع ذلك، نرى والدها يقبل على مضض أن تكمل ابنته الصغيرة الدراسة في بيروت داخل مدرسة مسيحية. وفي هذه المدرسة وجدت الطفلة ثريا، التي نشأت في أسرة مسلمة محافظة، محاصرة بطقوس دينية مختلفة، لم ترها في حياتها، والأنكى أنه طلب منها ممارستها، فالصلاة على طريقتهم تسبق وتلي أي شيء، قبل النوم يصلون، وفي الصباح يقرأون قليلاً من الإنجيل، وتشرف على ذلك إحدى المعلمات، التي تنام معهن في العنبر نفسه. لن يطول المقام بالطفلة ثريا في لبنان، إذ انتقلت للعيش في القاهرة حيث يعيش جزء من أفراد عائلتها.
ما تذكره أن تعليم الفتيات في السعوديات خلال الستينيات لم يكن محببا بعد لدى اوساط واسعة، ففي عام 1963عندما افتُتحت مدرسة للبنات في بريدة، أرسل الملك فيصل (الذي كان ولياً للعهد وقتها) جنودا للسيطرة على المظاهرات المناهضة لفتح مثل تلك المدرسة. ويذكر عبد الله الوشمي في كتابه «فتنة القول بتعليم البنات» أن معارضة شديدة لفتح مدارس لتعليم البنات كانت في نجد، وبالأخص في القصيم والزلفي، وأن وفدا من هذه المناطق ضم قرابة 800 شخص سافروا إلى الرياض لمقابلة الملك، أو ولي عهده، للمطالبة بعدم فتح مدارس للبنات في بريدة، وقد تأجل بالفعل فتح المدرسة إلى العام التالي. أما في الزلفي فقد ضربوا مندوب الرئاسة العامة لتعليم البنات، الذي تقدم بعد صلاة الجمعة يقرأ على المصلين فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي العام والمشرف على تعليم البنات. قررت عائلتها بعد فترة بسيطة إلحاقها بكلية البنات الإنكليزية في الإسكندرية، وهي مدرسة داخلية، موازية لمدرسة فيكتوريا الشهيرة الخاصة بالبنين. وهناك وجدت ثريا العالم العربي متمثلا في الكلية، حيث ضمت تلميذات ينتمين إلى عدد كبير من أقطاره. كان الكثير من أثرياء العرب وساستهم الكبار يرسلون بناتهم للتعليم في تلك المدرسة، عاشت مع بنات من بيت الغانم في الكويت، وأخريات من بنات النقيب. في المدرسة أخذت تتعرف على طقوس مختلفة، ومن بينها التدخين، كما بدت طفلة شقية، وفيها تطورت لغتها الإنكليزية، ومارست هوايات ما كان لها أن تمارسها لو بقيت في جدة مثل التمثيل، حيث لعبت دور البطلة في مسرحية «الأيدي الناعمة»، للكاتب توفيق الحكيم. ومن بين الأمور الإيجابية كما تقول التي تعلمتها أيضا داخل المدرسة نمو الروح القومية العروبية داخلها، إذ ما زالت تذكر تلك الفرحة التي اجتاحت الطالبات المصريات والعربيات يوم الإعلان عن الوحدة بين مصر وسوريا، فيما عُرف باسم «الجمهورية العربية المتحدة» سنة 1958، ومن هنا بدأ ارتباطها بعبد الناصر.
مرحلة الجامعة الأمريكية في القاهرة:
أنهت التركي دراستها الثانوية سنة 1961. لكنها لم تحصل على مجموع كبير في الثانوية العامة. لم يخف والدها تخوفه الشديد من دخولها عالم الجامعة الذي يدعو للتحرر. وتحت إصرار وضغوط من العائلة، تمكنت من دخول كلية الجامعة الأمريكية في القاهرة لدراسة الأدب العربي. كانت الجامعة الأمريكية في فترة الستينيات تعج بالطلاب العرب. وبعد تخرجها، اقترح عليها أستاذ أمريكي من أصول لبنانية توماس نواف فكرة إكمال دراستها في جامعة كاليفورنيا، وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه، تمكنت من الحصول على عمل في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد، وهناك تعرفت على أسماء كبيرة في عالم الأكاديميين، من بينهم العراقي محسن مهدي، الذي كان نائبا لمركز دراسات الشرق الأوسط. كان يبحث في التاريخ السياسي العربي في العصور الوسطى، وأستاذا للغة العربية في جامعة هارفارد منذ عام 1969. كما تعرَّفت على العالمة والمستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل ووليم جراهام. مع نهاية السبعينيات، طلب منها العودة للسعودية للتدريس في جامعة الملك عبد العزيز. كانت هذه الجامعة السعودية قد تأسست في سنة 1967 في جدة بصفتها جامعة أهلية، هدفها نشر التعليم العالي في المنطقة الغربية من المملكة. وضمت حرمين جامعيين منفصلين، أحدهما للطلاب والآخر للطالبات، طبقا لتفسيرات متشددة تدافع عن الفصل بين الجنسين بداعي درء الفتنة. جرى إلحاقها بالعمل في الحرم المخصص للطالبات بطبيعة الحال، لكن بدا لها أن الجامعة لا تختلف عن المدارس الثانوية، المناخ المتشدد والمنغلق، تتابع المحاضرات مثل تتابع الحصص المدرسية، توجد مكتبة لكن لا وقت لدى الطالبات للذهاب إليها، وفي نهاية اليوم يركبن الباصات إلى بيوتهن مثل التلاميذ الصغار. كان كل شيء في قسم الطالبات يخضع لمراقبة قسم الطلاب، فكل المحاضرات والأنشطة في قسم الطالبات تحتاج إلى موافقة سابقة من المسؤولين عن قسم الطلاب.
الاستقرار في القاهرة:
في سنة 1977، وبعد شعور بالضيق داخل جامعة الملك عبد العزيز، عادت وانضمت إلى أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وهنا سكنت برفقة زوجها الأنثروبولوجي الألماني كلاوس جوار السفارة الروسية على النيل. وفي سنة 1986 سافرت للعمل في جامعة جورج تاون، وهي جامعة كاثوليكية بحثية خاصة ومقرها واشنطن. وهناك التقت مرة أخرى بالأنثروبولوجي دونالد كول، الذي أشهر إسلامه، وأطلق على نفسه اسم «عبد الله»، وكان يجيد العربية. وفي أثناء وجودهم في الجامعة معا، قررا إجراء دراسة أنثروبولوجية في مدينة عنيزة. ولعل ما يلفت النظر أن الفضاء العام آنذاك داخل السعودية، فرض شروطه على العمل الإثنوغرافي، إذ تذكر أنه خلال إعدادهما للكتاب أقام كل منهما مستقلا عن الآخر! حيث أقام دونالد في أحد الفنادق في الجزء الحديث من المدينة، بينما أقامت هي في منزل أحد أقاربها في الجزء القديم منها، لكنهما كان على اتصال تلفوني منتظم للمناقشة والاتفاق على الجوانب المتعلقة بخطط البحث كافة. كان من الصعب أن يكون هناك لقاء يجمعها بدونالد بحكم العادات والتقاليد التي تمنع اختلاط المرأة برجل غريب، ناهيك كونه غير عربي. وعلى الرغم من ذلك، فإنهما كل مدة كان يتقابلان في منزل ابن عمها للنقاش في البحث.
القاهرة وطن ثان
لا تخفي التركي انحيازها أحيانا لهويتها السعودية، وهذا أمر طبيعي. مع ذلك فهي تكن للقاهرة حبا لا يوصف. إذ عاشت كما تذكر اربعين سنة تقريبا في هذه المدينة، ما جعل لسانها وهويتها وطباعها تنحاز أحيانا للثقافة المصرية. تتوقف أيضا في الفصول الأخيرة عند سيرة بعض الزملاء في القاهرة، وفي مقدمتهم الراحل جلال أمين الذي كان لها كما تذكر نعم الصديق الحريص عليها. تذكر عالمتنا أن حقل الأنثروبولوجيا وتنوعه القائم على البحث الميداني الإثنوغرافي، قد أدى في الواقع إلى تمكينها من اكتساب المعرفة عن ثقافتها ومجتمعها، بطرق لم تكن ممكنة لولا ذلك الالتزام والعشق لهذا الحقل.
٭ كاتب سوري