تبرهن الذات على انتمائها للمرجعيات التنويرية، بقوة تمكنها من نزعة تساؤلية، تعتمدها في تمثل ما هي بصدد معايشته ومقاربته. باعتبار أن التحكم في ميكانيزمات اشتغال الواقع، يقترن عمليا بتملك ميكانيزمات تأمله ومقاربته، تفسيرا وتأويلا. وهذه الميكانيزمات تكون عادة مؤطرة بأسئلتها التي تضع أشياء العالم، داخل أنساق مستوفية لشروط بنائها. علما بأن الوظيفة المركزية الممارسة من قبل الأنساق ذاتها، هي التحكم النسبي في كل من حركية المعيش، والمفكر فيه، كي لا يظلا خاضعين لقوانين الصدفة والعشوائية. الشيء الذي يتعذر تحققه بمعزل عن تمثل القوانين المنظمة لحركية الأنساق التعبيرية، بالنظر للتلازم الموضوعي والجدلي، القائم بين هذه الأخيرة، ومختلف الإشكاليات المجتمعية والثقافية، التي تستمد منها شرط حضورها في الفضاءات التواصلية، الخاصة منها والعامة.
إن ما يعنينا أساسا في هذه الإضاءة، هو جس نبض القدرات التعبيرية لدى الأفراد والجماعات، وهم في خضم تفاعلاتهم الثقافية والإنسانية، حيث سيتأكد لنا ضمورها في المجتمعات الهشة، بموازاة حضورها النافذ في أوساط المجتمعات المتمرسة على إدارة حواراتها، حول الإشكاليات العالقة والملحة. بما يقتضي ذلك من عمق ودربة ومسؤولية.
إن الأمر يتعلق هنا بالطاقة التعبيرية الموظفة في مختلف المجالات، بوصفها مسلمة ثقافية وحضارية لا يمكن تجاوزها. وأيضا بوصفها مؤشرا حقيقيا على حضور مرجعيات معرفية وتواصلية، تساهم بشكل مباشر في بناء هوية الذات المجتمعية، حيث يمكن ملامسة ذلك التكامل الدقيق، بين التلفظ والإنصات، كلما كان الباث مطالبا بتوخي الدقة في التعبير، نتيجة وعيه بحضور قوة الإنصات، التي تسلط أضواءها الكاشفة على كل كبيرة أو صغيرة ترد في سياق القول. ما يفضي إلى حضور ذلك التفاعل الملموس بين قوة القول، وقوة الإنصات، حيث يضعاننا معا، في قلب أطياف الدلالة، التي تلهج القوة التعبيرية بألسنتها. وهذه الأطياف تحيلنا على مجموع تلك المستويات، التي من شأنها تعبيد مسالك التواصل القائمة بين الباث والمتلقي. إنها القوة التي تستدرج المستمع، كي يتجاوز حدود الإنصات إلى مرحلة التفاعل البناء، وكي تحفزه ليتخذ مواقف إيجابية وملموسة، يساهم فيها في البناء المشترك لقول ما، لدلالة ما لفكرة، أو أفق.
إن الإنصات السلبي الذي يخلو من هاجس بناء نسق عقلاني ومعرفي للتواصل المشترك، يكون مجرد مساحة سيكولوجية مهداة بأريحية مجانية إلى متلق سلبي، على درجة كبيرة من الحياد. متلق، يكتفي بإرضاء الباث من خلال مساندته معنويا، كي يستمر في التلذذ بمتعة التنفيس السيكولوجي. إن القول هنا، إلى جانب الإنصات، من طبيعة استشفائية لا أقل، ولا أكثر. ولعلها الطبيعة ذاتها المهيمنة على التجمعات البشرية ككل، خاصة منها الخاضعة قسرا لحيثيات وملابسات الإعاقات الفكرية واللغوية، حيث تتوافر إمكانية اللغو ليل نهار، بدون أي هدف واضح ومرسوم. وهي ظاهرة ليست حكرا على العامة، بل إنها تشمل، أيضا غالبية الفضاءات التي يفترض فيها أنها المجال المثالي والنموذجي لتواجد الخاصة.
لن يكون للقول، بوصفه شأنا تعبيريا، أي ضرورة ثقافية، سياسية أو حضارية. لأنها لا تعدو أن تكون ضرورة مؤجلة، ومنسية، أو غير واردة تماما في خطاطة الاهتمامات اليومية.
ولعل مرد ذلك، هو الجهل التام بسؤال القوة التعبيرية، حيث يمكن على سبيل المثال لا الحصر، أن تحضر ندوة أو مناظرة تتمحور أشغالها حول قضايا الشأن العام، التي قد تمتد ليومين أو أكثر، بدون أن تستشعر خلال ما يتردد فيها من خطابات، حضور أسئلة القول، المحفزة للتفكير والتأمل، وتنشيط عامل المشاركة في بناء أو تفكيك الأنساق المعنية بالندوة، بمعنى أنها لا تفلح في إشعارك بالحاجة لأن تكون طرفا فاعلا، في صياغة أي معادلة معرفية، يمكن أن تؤثر بشكل أو بآخر، في تعبيد الطريق إلى أفق ثقافي أو حضاري ما.
إنك في ظل واقع كهذا، تظل – وضدا عليك – أسير الإنصات السالب الخالي من أي هاجس تفاعلي، باعتباره إنصاتا يستجيب عمليا لمتطلبات قول سالب، لا يعنيه أبدا أن يكون موضوع سجال، أو نقاش حقيقي وموضوعي. قول، يشحنه الإنصات السالب بنوع من الاطمئنان المتواطئ، الموهم بحضور انسجام مجاني، وغير حريص على التأكد من صلاحية مكوناته، ذلك هو طقس القول المهيمن على أجواء المحافل العربية، المسيجة بطمأنينتها السالبة.
تبعا لذلك، لن يكون للقول، بوصفه شأنا تعبيريا، أي ضرورة ثقافية، سياسية أو حضارية. لأنها لا تعدو أن تكون ضرورة مؤجلة، ومنسية، أو غير واردة تماما في خطاطة الاهتمامات اليومية. تلك هي الوضعية المأساوية التي تتخبط فيها الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي تعيش خارج منطق التوجهات البانية، المؤسسة لأفق المنعطفات الحضارية وتحولاتها.
إن الشأن التعبيري المفقود في هذ السياق، هو الإطار الذي على أساس حضوره الحتمي، يتم وضع خطاطات المشاريع المستقبلية، المعززة بقوة تدبيرها اللغوي، الذي يمكن اعتباره بمثابة دليل فعلي، يوجه الذات المجتمعية، إلى جوهر القضايا المعيشة، عبر إضاءته للمضايق المعرفية التي تتواجد فيها. وبالتالي، فإن الجهل بهذا المعطى، يحشر المجتمعات في الزوايا المظلمة، ويكرهها على الإقامة خارج أسئلة التاريخ. تحضرنا في هذا السياق، الحاجة الماسة والملحة للفهم، التي تتميز بها هوية الإنسان، بوصفه كائنا عاقلا، وعقلانيا. فثمة دائما إشكال ما، ينبغي استيعابه، وتجلية ما يكتنفه من غموض. وهو أمر لا يتحقق إلا من خلال الوعي بأهمية تحصيل الدلالة المحايثة للأشياء، للعناصر وللرموز. وفي مقدمتها دلالات البنيات التعبيرية. وكما هو معلوم، فإن الوعي بضرورة تحصيل الدلالة، يمر عبر مبدأ «الاستشكال»، أي من خلال إخضاع ظاهرة ما، لمبدأ التساؤل المجهري، الذي من شأنه رفع الغموض عن الشيء، وإعادة هيكلته ضمن نسق دلالي، يساهم في دمجه جدليا، ضمن شبكة الأنساق الدلالية المجاورة والمحايثة. وبالتالي، فإن اللغة المفتقرة إلى هذا العمق، هي لغة مفرغة من حركيتها، ومغرقة في سطحيتها. إنها مجرد أصوات وإشارات بدون هوية. ينحصر دورها في التماهي مع البؤس الثقافي والمجتمعي، الذي تتخبط فيه الشرائح الهشة، ضدا على انتظاراتها المشروعة. إن ضمور البعد «الاستشكالي» في لحظة تاريخية ما، يحرم اللغة من حظوة التنامي، ويحولها الى كائن معاق غير مكتمل، يشكو من أعطابه التعبيرية. لذلك فإن العبرة لا تكمن فقط في عمق وقوة الجذور التاريخية التي تتميز بها لغة معينة، بقدر ما تكمن في استمرارية قابليتها لتطوير إوالياتها، كي ترقى إلى مستوى استحداثها للإشكاليات المنتمية إلى أفق الزمن المستقبلي. الشيء الذي يقتضي توافر سلطة معرفية، لا تقتصر على التوظيف الفطري للمخزون اللغوي، بقدر ما تحرص على مواكبة مقوماته بالمعالجة العقلانية، التي تأخذ بعين الاعتبار، علاقات التواشج والتكامل، القائمة بين البنيات التعبيرية، وامتداداتها العملية، في مختلف المسالك والمنعطفات التي تفتحها أشياء العالم. غير أن المأساة تصبح أكثر تفاقما، حينما يظل هذا المخزون، منغلقا على طبيعته الفطرية، وفي غياب تام، عما تؤسسه أسئلة المستقبل في أوراشها المنتشرة على امتداد الأرض والسماوات السبع، من خطابات، مشاريع، ورؤى وتلك هي المشكلة.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
عنوان (الأنساق التعبيرية ومدارات السؤال) أو أحب إضافة تعبير (كلُّ إناءٍ بما فيهِ ينْضَحُ)، لماذا؟!
فلسفة التشكيك، لمسك مستمسك (لزمة)، من أجل أخذ احتياطات، حتى لا تنجح نظرية المؤامرة، في تحطيم صنم ثقافة الأنا أولاً، فلا أمل لك غير محاولة نفاقه، حتى تتجاوز ضرّره على الأقل،
هي إشكالية الإشكاليات في إدارة وحوكمة أي علاقة أساسها النظام البيروقراطي لدولة الحداثة بشكل عام،
كما لاحظته بشكل عملي، على الإنترنت (الوقوع في المصيدة) الشّابكة،
التي بدأ تسويق اعتماد استخدامها حول العالم، بواسطة نائب الرئيس الأمريكي آل غور، لربط أسواق المال،
لتقليل تأثير إنهيار الإتحاد السوفييتي، بعد نشر الترتيب الجديد للعالم، تحت قيادة صندوق النقد والبنك الدولي، وأخيراً معهد الحوكمة الكندي،
الذي أصدر الجميع في مؤتمر دولي بداية عام 2018 من بغداد، خمس ركائز لتجاوز شبح الإفلاس والوصول إلى تناغم وتعايش داخل الدولة والشركة والأسرة لممثلي ثقافة الأنا:
– الشفافية،
– اللامركزية،
– الحاضنة التقنية،
– للوصول إلى الحوكمة الرشيدة،
– حق تعليم لغات الأقليات مساو لحق تعليم اللغة الأم في الدولة.??
??????