السياسات القاصرة تحجب التفكير العقلاني والعمل المنطقي، والديمقراطية مازالت فلسفة تُباع لا تمتلك أسسا دولية خيرة. وإنه لأمر سيئ أن نغمض أعيننا عن الجرائم التي يقترفها الآخرون، ولا نفعل شيئا بشأنها. ثم نقوم بتزكيتها بسلوك مجاني متهافت، ندعي أنه تصرف دولة، وحكمة قائد، واستراتيجية حكم. وعملية السلام الأمريكية، التي ندرك اليوم أنها تعني منع التوصل إلى تسوية سياسية، أو اتفاق دبلوماسي يضع حدا للاحتلال الاسرائيلي المتواصل منذ عقود، تفسر بوضوح رغبة الولايات المتحدة في بقاء الوضع كما هو، بسلوك أحادي الجانب. بما يعني استمرار الفوضى في المنطقة. وهذا السلوك ارتبط بالجمهوريين كما الديمقراطيين، وبالتالي لا أمل يرجى من رئيس أمريكي جديد يمكن أن يغير من التوجهات العامة في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حتى تخوفات الدول المطبعة الجديدة، التي تفسرها تغطيتها الإعلامية المكثفة لحملة دونالد ترامب، وتضامنها الواضح معه، وأمانيها الخالصة بفوزه، لا مبرر لها. فحكومات هذه الدول سقطت أخلاقيا، وحطمت الروابط القومية الجامعة من خلال ما دأبت عليه منذ سنوات. وعليهم أن لا يخشوا شيئا بعد أن سقطت ورقة التوت. وسيستمر حِلفهم مع واشنطن وتل أبيب، ما داموا خاضعين للإملاءات بوجهها الجمهوري أو الديمقراطي. والمطبعون لم يكونوا يوما أعداء لإسرائيل، ولم يقدموا شيئا لفلسطين. وبالتالي هم اختاروا معسكرهم، وما يناسبهم من صفحات التاريخ. فقط، تذكرنا طريقة الهرولة نحو الصديق الجديد، بما يجري في المافيات، فإذا أصدر الزعيم أوامره، فإن تابعه لا يستطيع المراوغة.
من الصعب التفكير بأي مشروع أمريكي في الشرق الأوسط لم ينته إلى الفشل الذريع، أو لم يصل إلى طريق مسدود، بما في ذلك سياسات الولايات المتحدة المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، وموجة التطبيع الأخيرة تصب في إطار محاولات واشنطن وتل أبيب، الإبقاء على أنظمة عميلة تتناغم والرغبة الصهيونية، ومن حاصل استنتاجات أمريكية إسرائيلية مشتركة، تدفع صوب تغيير خريطة الشرق الأوسط تحت عناوين «الشرق الأوسط الجديد» أو «صفقة القرن». وهي ترجمة لتعبيرات الهيمنة، التي تُتيح لأمريكا السيطرة المباشرة على أكبر احتياطات النفط في المنطقة، وتُكسِب إسرائيل مقومات التفوق والقوة بشكل دائم. وتحد من تنامي توازن الردع، الذي يحدثه محور المقاومة. والسياسات الفاشلة المتعلقة بنشر الديمقراطية، والذرائع الكاذبة التي استُخدمت فيها الأخلاق من أجل شرعنة العمليات العسكرية، لم تعد مجدية في محاولة إخفاء أن مصالح بعض القوى هي التي دفعتها إلى التدخل العسكري. ولم تكن عمليات تجاوز القانون الدولي واختراق سيادة الدول تجري من أجل مصلحة الشعوب المعنية، التي باعوا قضاياها للرأي العام تحت عناوين مزيفة ومعايير مزدوجة. والولايات المتحدة مازالت تعتقد أنها تحتفظ بحق التصرف من جانب واحد، وهي جاهزة لتدعم عند الاقتضاء بواسطة السلاح موقف هيمنتها إزاء كل منافس محتمل، ولكن الواقعية السياسية اليوم تختلف عن فترة التسعينيات من القرن الماضي، وإن كان مفهوما بالنسبة لأيتام الحرب الباردة، أن المسألة هي هاجس البحث عن عدو، والإعلان عن خصم جديد يضاهي السابق، ويبرر الإبقاء على النفقات العسكرية والإنفاق الخارجي، الذي قد لا ترتضيه شعوبهم. وما كانت تمليه أهداف اليمين المحافظ منذ الثمانينيات أفضت إلى تمزقات كبيرة في السياسة والمجتمع، احتاجت إلى قدر من العقلانية السياسية، التي لم تتوفر لدى الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض.
موجة التطبيع الأخيرة تصب في إطار محاولات واشنطن وتل أبيب، الإبقاء على أنظمة عميلة تتناغم والرغبة الصهيونية
وجاء الانهيار السوفييتي ليمنح فترة حياة جديدة للاعتقاد الأمريكي المترنح إثر الهزيمة النكراء في فيتنام، بأن الولايات المتحدة تجسد العصر الحديث، الذي لن يستطيع أن يجسده أي بلد آخر. ومنحها انتصارها في حرب الخليج عام 1991 وقصفها المجاني للجنود والمدنيين العراقيين العائدين من الكويت، يقينا بإمكانه أن ينسف الأفكار التي رأت بأن أمريكا في تراجع، وأن قوتها ورخاءها في ذلك الوقت آخذان في التضاؤل. ولكن غطرستها أدت مرة أخرى إلى هزيمتها في أفغانستان والعراق. وغرورها كشف تناقضاتها وتخبطها، بين دفاعها عن القيم والمثل التي تدعيها، وإخلالها بالتزاماتها وتعهداتها الدولية. ناهيك من إرادتها الخالصة في تخليص المنطقة من الديمقراطيين، لكي ترضي إسرائيل وأصدقائها في الخليج. وعندما تأتي الانتخابات الديمقراطية بحكومات لا تتفق معها أمريكا أو حلفاؤها تسعى جاهدة إلى الإطاحة بها والاستعاضة عنها بحكام طغاة أكثر ودا وخضوعا. ومن الواضح أن أمريكا اليوم لا تمثل ثقافة الرضا والارتياح، بل هي مجتمع ينتشر القلق بين أغلبيته. وعلى الأرجح سوف تتقلص هيمنة الولايات المتحدة وتفوقها الاقتصادي والثقافي مقارنة ببداية هذا القرن. فهي تواجه منذ سنوات مشكلات خطيرة في بعض المجالات مثل، الديون والتعليم والاحتقان السياسي ونظام التغطية الاجتماعية والرعاية الصحية، التي ازدادت وضوحا مع أزمة الجائحة الحالية. وكل ذلك هو فقط جزء من الصورة السيئة التي يتم التنبيه إليها ويُدق ناقوس خطرها منذ فترة. ومن المؤكد أن من بين المسائل السلبية في السياسة الأمريكية في العقدين الأخيرين، وربما ستتواصل في المستقبل سواء تحت قيادة الديمقراطيين أو الجمهوريين، أنها تبالغ في رد فعلها تجاه الهجمات الإرهابية، أو ما تدعي أنه كذلك، وتندفع نحو حروب خارجية مُكلفة بعناوين مختلفة، وهي بذلك تُبعد نفسها عن القوة التي حصلت عليها من الانفتاح الليبرالي الديمقراطي كسياسة متبعة أواخر القرن العشرين، التي مكنت من الحفاظ على استقرار الأسواق العالمية بفعل سياسات الضبط والتنظيم.
وفي فترة حكم ترامب أصبح بساط الأمن بالنسبة لمعظم الأمريكيين يهتز من تحت أقدامهم، بالنظر إلى تفاقم السلوك العنصري، وتحوله إلى بنية هيكلية داخل المجتمع والدولة، والتصرف الأرعن لساكن البيت الأبيض، وعجزه عن حل جل الملفات الاجتماعية، بالإضافة إلى التأثير الحاد للركود الاقتصادي، الذي لن يكون من السهل تخطيه من حاصل تداعيات الجائحة العالمية على السوق المالية، وعلى الطبقة الوسطى والعدالة الاقتصادية. وتضارب المصالح بين كبرى الدول الاقتصادية يجعل التعاون لأي غرض أكثر طموحا من إدارة الأزمات أمرا يصعب تحقيقه، فلا سياسات تقارب في ظل سباق التسلح والحرب التجارية. ولا مقاربات في المدى المنظور لإصلاح الاقتصاد العالمي، وإحلال توازن اجتماعي، أو إقامة مؤسسات فعالة لرصد تأثير البشر على البيئة. والحد من قيام مصالح غير خاضعة للمساءلة، باستغلال الموارد الطبيعية، وتهديد السلم العالمي، ومستقبل الأجيال القادمة. ويوتوبيا الأسواق وهاجس التفوق والهرمية الدولية، تدفع أتباعها إلى التنكر بصلف لدروس التاريخ.
كاتب تونسي
ترامب يبدأ معركة قضائية ضد بايدن. الرجل يتخبط، ولن يهنئ بايدن اذا فاز. وهو الرئيس الأمريكي الأول الذي كشف الصورة الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية. هذا رأيي دكتور. تمنيت لو فاز ترامب واستمر في حلب الأبقار في منطقتنا وذهب بأمريكا إلى الهاوية شيئا فشيئا.
الاستخفاف بالقانون الدولي متجذر بعمق في الثقافة الذهنية والممارسات الأمريكية. والديمقراطيون مثلهم مثل الجمهوريين يشتركون في تكريس هذه السياسة. وما قلته صحيح ومؤكد دكتور لطفي.